رجال من الثورة

عبد اللطيف في بداية الأربعينات من عمره، لديه ابنتان وثلاثة صبيان. من قرية الراعي في ريف حلب الشمالي، على الحدود مع تركيا. كان قبل الثورة يعمل في مشفى الرازي في حلب كعامل صيانة، كما يزاول مهنة جلي البلاط ليتغلب على صعوبات الحياة المادية.

دمث الأخلاق ومستقيم في كل شيء. يخدم الناس ولو على حسابه. يؤدي بشكل دائم واجباته الاجتماعية من فرح أو عزاء أو مرض. يسهر كل يوم تقريباً في حيّ الهلك بحلب مع أصدقائه وأقاربه.

في بداية العمل المسلح أخذ عائلته إلى مدينة عنتاب التركية حيث استأجر بيتاً متواضعاً أسكنهم فيه، وعاد وحده إلى حلب. كان يأتي كل شهر أو شهرين إلى عنتاب يمد عائلته بما تبقى من راتبه، ويبقى ليومين ثم يعود إلى عمله. استطاع ابنه البكر، وهو في حوالي العشرين من عمره، أن يجد عملاً في شركة خاصة يؤمن له دخلاً معقولاً ليساعد والده في مصروف العائلة.

في أحد الأيام ذهب إلى المشفى الذي يقع في مناطق سيطرة النظام فوجد جثة شابٍ على الأرض، يجلس على مسافة منها شرطي.. يحرسها. سلّم على الشرطي الذي يعرفه جيداً، وسأله عن الجثة وصاحبها، فقال إنها لأحد أفراد الجيش الحر، قُتل في اليوم السابق ووضع في المشفى، وكُلّف الشرطي بحراسته، فإن أتى أحد من أقاربه يلقي القبض عليه، ويعرفون صاحب الجثة.

أكمل عبد اللطيف طريقه إلى غرفة الصيانة. وأثناء عمله وإذ بهاتفه يرن وأحد أصدقائه يطلب منه موعداً لزيارته في البيت. اتفقا على اللقاء مساء. جاء الشاب على الموعد. وبعد أن شربا الشاي وتجاذبا أطراف الحديث قليلاً، قال: «البارحة صار اشتباك بيننا وبين قوات النظام على أطراف حي الهلك، واستشهد أحد الثوار من أقاربنا، وجثته موجودة في مشفى الرازي، ووالده يريد أخذها ودفنها في الحيّ بعد أن يودعه أهله وأحبابه، ونريدك أن تساعدنا في هذا العمل».

فكر عبد اللطيف لدقائق ثم أجاب: «تعال غداً في السادسة والنصف صباحاً ومعك شاب آخر في سيارة سوزوكي، وتوقفوا قبل المشفى بخمسين متراً. في السابعة تدخلون المشفى بحالة إسعاف، وتوقفون السيارة في المكان الذي توجد فيه الجثة، فتحملونها إلى السيارة وتضعون غطاء عليها، بينما أكون قد أخذت الشرطي لنشرب القهوة».

في اليوم التالي تم كل شيء كما هو مخطط له، ودفن الشهيد بين أهله فيّ حي الهلك. ولما عاد الشرطي ولم يرَ الجثة عرف أن أحداً ما قد أخذها لكنه لم يبالِ، كما أن أحداً لم يسأله عنها نتيجة البيروقراطية المنتشرة في أجهزة الدولة.

بعد أشهر طويلة استدعى مدير المشفى عبد اللطيف إلى مكتبه، ولما حضر قال له: «لقد عرفت المخابرات أن عائلتك في عنتاب، وأنت تعمل هنا. أنا لا أستطيع التغطية عليك. لقد أصبح وضعك خطيراً». كان المدير تركمانياً مثل عبد اللطيف، وكان يعتبر أن من واجبه إخطار «ابن جماعته» بالأخطار المحدقة به. في اليوم التالي كان عبد اللطيف قد غادر المدينة متجهاً إلى عنتاب، ومنذ ذلك اليوم لم يعد إلى حلب.

بدأ يبحث عن عمل في المدينة التركية. جال على كل معارفه. كلما سمع بفرصة كان يقدم أوراقه ويعدونه أنه سيحظى بالموافقة، لكن أحداً لم يفِ بوعده. لماذا؟ سألته مستغرباً، فأجاب: «لست محسوباً على تكتل أو جماعة. نفس عقلية النظام. المشكلة أن الذين حظيوا بفرصة عمل هم المحسوبون على المتنفذين، والمشكلة الأكبر أن بعضهم كان إلى فترة قصيرة -وربما لا زال إلى الآن- من المعادين للثورة، وبعضهم كان -وربما لا زال إلى الآن أيضاً- مخبراً للنظام».

في أحد الأيام، وبينما كان يمشي في الشارع، إذ بأحد يربت على كتفه. التفت فرأى رجلاً في الستينات، سلّم عليه وبادره بالسؤال: «ألم تعرفني؟»، فأجابه عبد اللطيف بأدب جمٍّ: «لا، يا عم». قال الرجل: «أنا والد الشهيد الذي ساعدتنا في تهريب جثته من مشفى الرازي». ذهبا إلى أحد المقاهي وشربا الشاي. شكره الرجل كثيراً ثم أخرج رزمة من المال قائلاً: «لن أنسى معروفك. خذ ما تشاء، فأنت تستحق ذلك». فأجاب عبد اللطيف: «لم أقم بذلك من أجل المال. أديت واجبي فقط». غادر الرجل المقهى وأكمل عبد اللطيف سيره في شوارع عنتاب. كانت الدموع تملأ عينيه، وكان يحس بالسعادة والفرح!!