خاص عين المدينة

انعكست التأثيرات التي أفرزتها الثورة السورية وظروف الحرب على كافة الشرائح الاجتماعية، خاصة المرأة، التي باتت الشريحة الأكثر تضرراً وأهمية في الوقت نفسه، نظراً لما رافقها من تغيرات طالت بنيتها الاجتماعية، من إيمان بدورها الفاعل والإهمال الحكومي لها، واستغلالها وحرمانها من حقوقها، وتفشي ظاهرة زواج القاصرات، ومحاربة المجتمع للمعتقلات والتضييق على المطلقات، خاصة مع سيطرة الفصائل ذات الخلفية الدينية على معظم المناطق المحررة، ما أدى إلى ارتفاع أصوات منظمات المجتمع المدني التي نادت بدعم المرأة، وتمكينها واستهدافها من خلال مشاريع تدريبية وتوعوية لإشراكها في نواحي الحياة عامة.

اقتصرت المنظمات الداعمة لحقوق المرأة وتمكينها في سوريا قبل الثورة على الاتحاد النسائي الذي تأسس عام 1967، والذي سرعان ما أخذ شكل المؤسسة الرديفة لحزب البعث مع بداية حكم الأسد الأب، ليتحول «إلى مقر لاجتماعات نسائية شبيهة بالاجتماعات الحزبية، لا تخلو من الثرثرة والتنظير، وكان وصف «اتحاد العوانس» هو الأكثر تداولاً بين الناس للتعبير عن الاتحاد النسائي» على حد قول إيمان البكري 45 عاماً، المدرسة والناشطة من مدينة حلب. ومع ظهور الأمانة العامة للتنمية في عام 2001 التي تترأسها زوجة الأسد الابن، فُعّل دور المرأة، ولكنه اقتصر على المدن الرئيسة في دمشق وحلب واللاذقية وحمص، واختص نساء الساحل بالمشاريع الأهم للتنمية، دون التوجه نحو المناطق المهملة والمنسية في الأرياف السورية «التي كان يجب أن تكون لها الأولوية في مثل هذه المشاريع».

في السنوات الأخيرة توسعت ظواهر استغلال المرأة وحرمانها من حقوقها في التعلم والعمل، وانتشار ظاهرة الزواج المبكر. فأمثال ك«المرة لبيتا وزوجا» و «بلكي بيجي حدا بيستر عليهون» عادت للحياة من جديد، بحسب سمية كنعان 22 عاماً، التي زوجتها والدتها ل«مهاجر أوزبكي» يقاتل في صفوف هيئة تحرير الشام، بعد استشهاد والدها بغارة جوية في عام 2012، «نحنا تلات بنات وأخونا صغير، أمي زوجتني لتخلص من لقمتي، تزوجني سنة وبعدا طلقني».

عادت سمية إلى بيت أمها لتلد طفلاً صغيراً يزيد من المأساة التي تعيشها، ولكنها أصرت على متابعة الحياة هذه المرة، لتتمرد على الأعراف الاجتماعية في قريتها التي تعتبر عمل المرأة -خاصة المطلقة- إهانة كبيرة. «عملت دورة إسعافات أولية، وتطوعت بالدفاع المدني، وصرت آخد راتب وعيش أنا وابني وأهلي»، الكثير من رجال القرية كانوا يسيئون لسمية ويجرحونها بالكلمات البذيئة، ولكن هذا الأمر بدأ بالانحسار بعد أن ساهمت في تمريض العديد من نسائهم وأطفالهم، وتوجه الكثير من النساء إلى العمل في هذه المهنة، بعد أن تم تخريج 300 متدربة في الإسعافات الأولية ومحاور الإنقاذ والتعامل مع الإصابات الكيماوية في مدينة إدلب عام 2015.

تدين سمية مثل غيرها من نساء كثيرات في نجاح تجربتها لمنظمات المجتمع المدني المختصة بشؤون المرأة في المناطق المحررة، حيث ساعدت هذه المنظمات الكثير من النسوة على تعلم مهن واكتساب مهارات تؤهلهن للحصول على فرصة عمل في ظروف اقتصادية متهاوية.  

في مدينة الأتارب أسست الإعلامية  ميسا المحمود مركز «بناء الأسرة»، هدفه تمكين المرأة وتدريبها لترتفع فرصها بالحصول على عمل، وتوعيتها لتصبح فاعلة وصاحبة قرار؛ إلى جانب اهتمام المركز  بقضايا المعتقلات السابقات وإعادة دمجهن في الحياة العامة، بعد نبذهن من قبل المجتمع نتيجة لتبعات ظروف الاعتقال.

ترى ميسا، وهي أم لأربعة أطفال تعيلهم بعد انفصالها عن زوجها، أن مثل هذه الدورات التدريبية، التي يقوم بها مركز بناء الأسرة، والمراكز الأخرى المنتشرة في المناطق المحررة، ك «الهيئة النسائية ودولتي ومكتب المرأة في المجلس المحلي لمدينة الأتارب وبعض المنظمات كمنظمة تمكين»؛ وإن لم تستطع متابعة النساء بعد تخريجهم من الدورات، لكنها قدمت لهن المعرفة اللازمة للحصول على عمل في «المجالس المحلية والشرطة الحرة والدفاع المدني والمهن اليدوية كحياكة الصوف وإعادة تدوير الأشياء التالفة و الخياطة وتصفيف الشعر....»

الإعلامية التي اضطرت لمغادرة مدينة حلب في عام 2012، بعد تعرضها للملاحقة من قبل الأمن السوري لمشاركتها في المظاهرات ونقل الأدوية والسلاح للمتظاهرين والعمل الإغاثي، استطاعت بمساعدة عشر نساء من حملة الشهادات أن يؤسسن في نيسان 2017 مركز بناء الأسرة بجهود فردية، استهدف 250 امرأة في دورات الصحافة والتصوير الضوئي والفوتوشوب وقيادة الحاسوب ومحو الأمية والمهن اليدوية، بالإضافة إلى 150 طفلاً في نادي الطفولة، والمشاركة مع اتحاد نسائم سوريا بمعرض فني للأعمال اليدوية، ويجري التحضير حالياً لمعرض جديد يوم السبت المقبل.

صار لأم محمد -زوجة معتقل في سجون النظام- مهنة تعتاش منها، بعد أن تعلمت حياكة الصوف في مركز بناء الأسرة، وأقامت السيدة مريم دورة تدريبية للنساء في المركز بعد أن تدربت وباتت جزءاََ من الفريق، «البنات الي حضرو كتار، وأهم الشي توفر الرغبة والإرادة».

وللشرطية علياء السعيد مسيرة كفاح من نوع مختلف، فالمجتمع المحافظ التي عاشت فيه لم يعتد أبداً رؤية امرأة بملابس عسكرية سوى في التلفاز، وقد زاد هذا الأمر من صعوبة القرار الذي اتخذته. فزوجة الشهيد كانت قد اتخذت قرارها بعد أن خضعت لدورة في قيادة الحاسوب على التطوع في الشرطة الحرة، هذه المرة كان الأمر مختلفاً عن النساء اللواتي تطوعن في صفوف داعش كنساء للحسبة، وعن النسوة اللاتي كانت تشاهدهن في أسواق إدلب في سيارات كتب عليها الشرطة النسائية- جيش الفتح، إذ اقتصرت مهمتهن على ملاحقة النساء في الشوارع للتفتيش على الالتزام باللباس (الشرعي) الكامل، والمكياج ومراقبة المدارس والتفتيش عن مخالفات ترتكبها الطالبات داخل الصفوف، «الشرطة الحرة شيء مختلف، عملي في الأرشفة غير حياتي نحو الأفضل، واستطعت اخيراً أن أكتشف نفسي، وأمتلك قراري، حتى لو اضطرني الأمر في كثير من الأحيان لمواجهة سخرية العديد من أفراد المجتمع الذي أعيش فيه، والسلطات العسكرية للفصائل المقاتلة بخلفية دينية، والتي ساعدت على الحد من نشاط المرأة وحريتها». كما استطاع فريق نسائي في نهاية عام 2016 في مدينة الأتارب من إنجاز صيانة كاملة للطرقات في البلدة بدعم من منظمة تمكين ، بحسب تقرير نشرته قناة أورينت.

على الرغم من اعتراف حكومتي المناطق المحررة والمجالس المحلية بأهمية دور المرأة، وضرورة إشراكها في الحياة السياسية والاجتماعية، إلّا أن هذا الاعتراف بقي مقتصراً على الكلام، إذ تخلو الحكومتان من تواجد نسائي في أي من حقائب وزاراتهما، بل على العكس تماماً تم الاستغناء عن وزارة الثقافة وشؤون الأسرة التي شكلتها الحكومة المؤقتة في عام 2013، وجرى تحويلها إلى (هيئة الأسرة ودعم المرأة)، كما تم إهمال مكتب المرأة في مجلس محافظة حلب الذي تشكل في عام 2016 «ليعاد تشكيله مرة أخرى في منتصف 2017، بموظفة واحدة تتابع نشاطاتها باسم مجلس المحافظة بدون راتب» بحسب محمد شحادة مدير المكتب المالي في محافظة حلب، وتشارك المرأة في عدد قليل من المجالس المحلية لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، أهمها المجلس المحلي في مدينة الأتارب، بعد أن فازت عائشة بكور في الانتخابات التي خاضتها 5 سيدات مقابل 96 رجلاً، لتترأس اليوم مكتب حماية المرأة والطفولة، ومكتب المرأة المشكل في المجلس المحلي لمدينة كفرنبل في محافظة إدلب الذي يضم موظفتين.

صفحة بناء الأسرة على الفيسبوك

هناك 67 منظمة تعنى بشؤون المرأة، سبعة منها في مدينة حلب، من أصل 835 منظمة تعمل في الداخل السوري، بحسب إحصائية قامت بها منظمة مواطنون لأجل سوريا، وإن كانت هذه الإحصائية ليست دقيقة، ولكنها تقارب الواقع. معظم هذه المنظمات تعمل بشكل منفرد ودون العودة إلى المجالس المحلية أو الحكومات، تقول ميسا المحمود مديرة مركز بناء الأسرة «لا نتبع لمكتب المرأة في مجلس المحافظة، فقد أبلغنا رئيس المجلس أن تشكيل هذا المكتب يجب أن يتم بشكل توافقي، ولكنهم قاموا بإحداث المكتب دون مشاركة المنظمات و المراكز التي تعنى بشؤون المرأة»، «وعلى الرغم من ذلك، قدم مركز بناء الأسرة أوراقه للترخيص في مجلس المحافظة، كما يجري التنسيق مع المجلس المحلي في الأتارب للتعاون معهم من خلال مذكرة تفاهم».