بينها مزوّرة.. سوقٌ سوداء للأدوية السورية في تركيا
وتحذيرات: بعضها قد يؤدي إلى الموت!

اتسعت ظاهرة بيع الأدوية السورية بشكلٍ لافتٍ بين اللاجئين السوريين في تركيا، وخصوصاً في ولاياتها الحدودية كغازي عينتاب وأورفا وأنطاكيا. تباع هذه الأدوية في محال تجاريةٍ للمواد الغذائية والخضار، وسط جهل الباعة بالتعامل معها وشروط حفظها، ما يؤدي إلى فسادها في أغلب الأحيان. وتجري هذه التجارة وسط غيابٍ تامٍّ لأيّ نوعٍ من الرقابة، وخصوصاً في بلد المنشأ، سوريا، ما فتح الباب لانتشار أدويةٍ مزوّرة.

أدويةٌ مزوّرة

أكد الدكتور «خالد. ح»، وهو طبيب داخليةٍ يعمل في أحد المستوصفات السورية في مدينة كيليس، أن انتشار الأدوية المزوّرة واضحٌ وعلنيٌّ وعلى مستوىً كبير. وأضاف متسائلاً: «من أين تأتي هذه الأصناف بعد أن فُقدت منذ زمنٍ طويل، أو دُمّرت المعامل التي كانت تنتجها، أو سُحبت من الأسواق لضررها بعد أن حظرتها منظمة الصحة العالمية؟!».

وأعطى مثالاً فقال: «توقف إنتاج شراب البيبي كالم في سوريا منذ أكثر من ثلاث سنوات، ونقط الميدرالين توقف إنتاجها منذ عام 2007. كما أن وزارة الصحة حددت أسماء 25 معملاً تعرّضت جميعها للقصف وخرجت عن الخدمة، ومع ذلك تنتشر أدويةٌ مصنعةٌ باسم هذه المعامل في تركيا وفي المناطق المحرّرة، ومنها الفولتارين وسيتامول تاميكو. فمن أين تأتي هذه الأدوية، أو بالأحرى من يصنعها وكيف؟».

وبسبب طريقة انتشار السوريين، وغياب جهاتٍ يمكن اللجوء إليها في حال ثبت ضرر أيّ دواء؛ فإنه من الصعب تتبع مضاعفات ونتائج انتشار هذه الأدوية. إلا أن السيدة ياسمين، التي تسكن في مدينة كيليس، قالت لمجلة «عين المدينة»: «هناك محلاتٌ سوريةٌ تبيع خلطاتٍ على أنها علاجٌ لبعض الأمراض الجلدية وحب الشباب، وبعد استخدامها زادت آفة حب الشباب عندي وانتشرت في وجهي بطريقةٍ غريبةٍ. وعند مراجعة الطبيب تبيّن أن هذه المادة سبّبت حساسيةً كبيرةً للجلد ما أدى إلى ندباتٍ دائمة».

وتسهم صفحات مواقع التواصل الاجتماعيّ، باعتبارها المكان الذي يجد فيه السوريون ما تعوّدوا عليه في بلادهم، في الترويج لعددٍ كبيرٍ وأصنافٍ متعدّدةٍ من الخلطات والأدوية. وتستمرّ هذه الظاهرة في الانتشار رغم تحذيراتٍ يكتبها أطباء سوريون في الصفحات نفسها.

مهرّبو الأدوية المزوّرة، من هم؟

تعيش الصيدلانية «منال. ع» في مدينة مرسين منذ سنتين، وأكدت وجود أدويةٍ مزوّرةٍ تنتشر بين السوريين هناك، وقالت في حديثها للمجلة: «عند تذوقي نقط التيمبرا وجدت طعمها مرّاً كالعلقم في حين كانت تمتاز سابقاً بطعمٍ حلو. وفتحت كبسولة الماكسيبين، المفترض أنها من إنتاج معمل آسيا، فوجدت أن محتوياتها بودرة من الطحين والسكر».

واستغربت الصيدلانية الأسعار الرخيصة لكريمات البوهلي والإيديال، إذ تباع بأسعارٍ تقلّ عن ثلث أسعارها في السوق، وأضافت: «من الواضح، عند فحص هذه الكريمات بالعين المجرّدة، أنها غير متجانسة، كما أنها ذات رائحةٍ عطريةٍ لم تكن موجودةً في السابق». واللافت، بحسب ما تقول الصيدلانية، أن بائعي هذا الصنف يتبدلون كل مرّة، وأضافت: «ليس من السهل تتبعهم أو التعرّف إلى الذين يتاجرون بالأدوية المزوّرة».

سر رواج هذه الأدوية

استطلعت «عين المدينة» آراء العديد من السوريين من شرائح مختلفة، وخلصت إلى أن أسباب رواج هذه الأدوية، الصالح منها والمزوّر، يعود بالدرجة الأولى إلى معرفة السوريين بأسمائها، وثقتهم السابقة بفعاليتها، وإلى رخص أسعارها، إذ تصل في كثيرٍ من الأحيان إلى ربع أسعار نظيراتها التركية. ومن أبرز الأسباب أيضاً القوانين الصارمة لبيع الأدوية في تركيا، وحصر صرف الكثير منها بوصفةٍ طبيةٍ من المشافي أو من أطباء أتراك، وهنا تبرز مشاكل التواصل واللغة.

السيدة سعاد، ربة منزلٍ تقيم في كيليس، تقول للمجلة: «لا يمكننا الذهاب إلى المشفى في كلّ مرّةٍ ترتفع فيها درجة حرارة طفلي، فهناك نبقى لساعاتٍ طويلةٍ بسبب الازدحام أو البحث عن مترجم، لذا أتوجه إلى أقرب دكانٍ وأشتري تيمبرا (نقط خافض حرارة للأطفال)، وتُحلّ المشكلة»، وتضيف: «نشتري نقط السيروم (قطرة أنفية للأطفال) مثلاً بثلاث ليراتٍ تركيةٍ من الدكاكين، بينما سعرها في الصيدليات 11 ليرة».

تجارةٌ مربحة

تتوافر الأدوية السورية في الكثير من محلات السمانة والخضار، وخصوصاً في الأحياء الشعبية من المدن التركية حيث يسكن عددٌ كبيرٌ من السوريين. ويقول ياسر، وهو صاحب دكانٍ في منطقة دوز تبة بمدينة غازي عينتاب: «هالني الطلب على هذه الأدوية فبدأت بيعها في دكاني. هناك إقبالٌ شديد، نصف أرباح الدكان من بيع الأدوية». اعترف ياسر أنه ليس صيدلانياً ولا خبيراً بالأدوية، إلا أنه أردف قائلاً: «أكتفي بأصنافٍ محددةٍ معروفة، مثل حبوب الالتهاب ومسكن الآلام وحقن الكريب، ومثل هذه الأدوية لا تحتاج إلى خبير».

على أحد رفوف دكانه لبيع القهوة في مدينة نيزب يضع سعيد مجموعةً من الأدوية، وعند سؤاله عن خبرته فيها قال: «كنت أعمل في صيدليةٍ لعشر سنواتٍ في مدينة حلب. وحين أتيت إلى هنا بدأت أساعد السوريين بشراء الأدوية من الصيدليات التركية لأني أعرف التراكيب العلمية، كما أعطي الحقن وبعض الإسعافات الأولية بشكلٍ مجانيّ. وشيئاً فشيئاً صارت هذا عملي هنا». وعن طرق حصوله على الأدوية يقول: «هناك الكثير من البائعين يأتون إلينا ويعرضون علينا الشراء. لا تتوافر معظم الأدوية ولكن هناك حوالي 100 صنف». وعدّد سعيد الأدوية الأكثر رواجاً؛ ومنها مسكن الألم البوفين، والمضاد الحيوي الماكسيبين، ومضاد الالتهاب غير الستيروئيدي ديكلون، وهو موجودٌ كحقن، ونقط المنوم ميدرالين، وخافض الحرارة تيمبرا، والسيتامول.

أثناء وجودنا لاحظنا أن معظم الذين دخلوا إلى محل القهوة الذي يديره سعيد كانوا يدعونه «دكتور» ويصفون له مرضهم. وعندما سألنا أحدهم عن سبب مجيئه قال: «الأدوية التركية لا تنفع، وأسعارها مرتفعة».

من أين تأتي هذه الأدوية؟!

تأتي غالب الكميات عن طريق التهريب، وأكبر المنافذ من جهة مدينة كيليس المقابلة لمدينة اعزاز، والريحانية المقابلة لمدينة سرمدا. وهناك عددٌ من المهربين بينهم أتراك.

يعيش سامر. خ في ولاية كيليس منذ أربع سنوات، ويعمل في تجارة الأدوية وتهريبها. يقول: «هذه التجارة رابحة. منذ سنوات كان التهريب سهلاً فالحدود كانت أقل رقابة، ونعاني اليوم من صعوباتٍ كثيرة. ومع ذلك ازداد عدد الذين يعملون في تهريب الأدوية لتأمين لقمة العيش».

ويكمل: «يقوم أحد أصدقائي في الداخل بشراء الطلبيات وإيصالها إلى المهرّب الذي يدخلها. النوع ليس مهماً، فهو يأخذ عن كل كرتونةٍ بوزن 20 كيلوغرام مبلغ 1000-1250 دولاراً، ولذلك نتجنب الأدوية ذات الأوزان الكبيرة كالشرابات ونكتفي ببعض أنواع الحبوب والمراهم والتحاميل المطلوبة في السوق». وعن مصدر شرائها يقول سامر: «نشتريها من مستودعات الأدوية في سوريا أو عن طريق الصيدليات».

علي الخالد سوريٌّ من مدينة الدانا لجأ إلى تركيا وسكن في الريحانية منذ 2014، وكان يعمل في التوزيع كمندوبٍ لإحدى شركات الأدوية في سوريا. قال: «تفاجأت عند دخولي إلى تركيا بانتشار الأدوية السورية في الريحانية، ما شجّعني على العمل. في البداية كنت أشتري من التجار وأوزّع هنا، ثم تعرّفت على بعض الأشخاص الذين يأتون لي بالدواء من الأراضي السورية وأنا أبيعه هنا لتجار الجملة».

ويضيف: «صرنا نرى في الأسواق بعض الأدوية التي لا توجد حتى في الصيدليات السورية. لا أعرف من أين تأتي، في الغالب يصنعونها هنا في تركيا».

تجارة الموت

وعن مخاطر هذه الظاهرة يقول الدكتور شعبان، وهو طبيب اختصاصيٌّ يعمل في إحدى المنظمات في مدينة غازي عينتاب: «المشكلة قديمة. فمنذ كنا في سوريا والمريض يلجأ إلى الصيدلي لأخذ دوائه عوضاً عن الذهاب إلى الطبيب، ولكن الكارثة هنا أن هذه الأدوية توصف من قبل بائعين لا يعرفون مخاطر الأدوية ولا جرعاتها ولا ينظرون حتى إلى صلاحيتها».

ويكمل الطبيب: «لا ثقة لي بهذه الأدوية وطريقة حفظها ووصولها إلى أيدي المرضى. بعضها قد يسبّب آثاراً جانبيةً كبيرةً ولا يمكن أن توصف دون معرفة. فمريض الضغط، على سبيل المثال، لا يمكن أن تعطيه إبرة ديكلون لأنها تحوي على الصوديوم ما يؤدي إلى ارتفاع ضغطه في حال أخذها، ورغم ذلك تراها منتشرةً كعلاجٍ للكريب وتعطى دون دراية».

بينما يحذر الصيدلي أحمد. ح، الذي يعمل في مدينة الريحانية، من غياب الرقابة على المعامل السورية التي يقع معظمها في مناطق سيطرة الثوار ولا يقوم خبراء فيها بفحص معايير الجودة أو التعقيم أو الصلاحية. ويتساءل: «في السابق كانت تصل إلينا نشراتٌ دوريةٌ عن أدويةٍ لسحبها من الصيدليات لخللٍ في طريقة التصنيع أو زيادة الشوائب، فكيف يتم الأمر الآن؟». ويشير إلى أن «بعض الأدوية غير خطرة وآثارها الجانبية قليلة، كحبوب الالتهاب والسيتامول، ولكن الأمر تطور إلى بيع أدويةٍ نوعية».