بين الموت والحياة.. والفشل في التقاط اللحظة

آثار القصف على قرية عابدين جنوب إدلب - بعدسة الكاتب

صوت انفجارات قوية جعلني أستيقظ مرعوباً، سرعان ما تذكرت ماكنت أفكر به حين غفوت منذ ساعتين أو ثلاث، بعد ليلة مرهقة أمضيتها مواسياً محمود الذي قضى ليلته تحت 160 صاروخاً في بضع ساعات اخترقت سماء الهبيط بليلة واحدة. كان يسألني ويكرر السؤال مراراً "كم الساعة؟ كم بقي للفجر؟ هذه أطول ليلة بعمري.. أريد أن يطلع الفجر حتى أخرج أهلي من تحت القصف" كان آخر ما كتبه.

كنت أواسيه وأخفي عشرات الهواجس: هل سينجون؟ ماذا سيحل بالهبيط المكتظة بالسكان؟ هل ستنحرف الراجمات والمدافع قليلاً فتصبح وجهتها قريتي؟.. ليس لدي ما أقوله عن قريتي عابدين التي لم يسمع بها الكثيرون سوى بساطتها وطيبة أهلها. لم يتجاوز عددهم حتى الآن ألفي شخص، يعيشون في 250 بيتاً تقريباً تشكل الجانب العمراني الحديث الذي تراكم خلال عقود بشكل متباعد شأن كل القرى في العالم؛ تتبع إدارياً لمنطقة خان شيخون، فيها مجلس محلي نشاطه ضعيف يشكل المكتب الإغاثي لبّه، لم يتجاوز إيجار البيت فيها ثمانية آلاف ليرة سورية، وترتفع 650 متراً عن سطح البحر، ويمكن اعتبارها مصيفاً في وقت سابق بجو بارد شتاءً ومعتدل صيفاً.. إذن هكذا سيكون التعريف بقرية عابدين في ويكيبيديا لو قيض لأحد أن يكتب عنها، لكن ذلك سيستثني (روحها) ويقصيها.

كيلو متر واحد يفصل قريتي عن الهبيط التي كانت تُدكّ بالصواريخ حين كنت أواسي صديقي، وأحاول منحه الأمل من قلب خائف أيضاً، قبل أن أغفو هارباً من هواجسي وتخوفاتي حين غاب محمود عن الإنترنت. عندما استفقت على أصوات القصف، تذكرت كل شيء عشته قبل غفوتي، علمت أن دورنا بالقصف قد أتى، أزيز صواريخ وأصوات انفجارات من جديد في الحي المجاور خلف منزلي، وأصوات الصراخ تملأ الدنيا "انزلوا للملاجئ..". هنا سأمضي لكاميرتي وأصعد إلى سطح المنزل لرصد والتقاط كل ما تطاله عدستي، كما فعلت لسنوات كناشط إعلامي، لكن -على غير العادة- شيء ما منعني، هاجس قال لي أن القصف لن يتوقف حتى يغطي كل قريتك الصغيرة، ثم فكرت أن أتجه للغرفة التي علقت بها الكاميرا، وأن أحملها وأنتظر الهدوء بزاوية ما كي أصور، لكن دفعة صواريخ جديدة جعلتني أهرول مسرعاً إلى الملجأ دون أن أصل إلى الكاميرا.

كان أهلي قد سبقوني إلى الملجأ، مازال مشهدهم في مخيلتي واقفين بحجرة من حجر المغارة الرومانية -نسيت أن أضيف أن قريتي تحوي الكثير من تلك المغارات- لم يكونوا جالسين، كأن أعصابهم لم تسمح لهم بالجلوس، أو الخوف والتوتر منعهم. كنت متيقناً أنهم يظنون أن القصف عابر وسينتهي كالعادة ببضع قذائف، كانت الوجوه المرعوبة تستفز تفكيري لإيجاد طريقة أخبرهم فيها أن الأمر مختلف هذه المرة، لكن كيف سأشرح لهم في هذا التوقيت والجو ماذا يعني إفراغ المناطق من أهلها وهدم بيوتها، وقصص المنطقة العازلة والكثير من الاحتمالات والسيناريوهات السياسية الصعبة؟ قطع تفكيري دخول عائلتين إلينا، إحداهما من الجيران الذين لا يملكون ملجأ، والأخرى نازحة لديهم؛ انتظر الجميع تحت سقف ذلك الكهف ينتظرون الفرج، ومع كل انفجار يرتجفون مسمرين بأماكنهم، ويكبرون ويذكرون الله بقمة الرعب.

افتقدت الكاميرا أمام هذا المشهد، كان القصف يفصل بيني وبينها، وثلاث عوائل من الرجال والنساء والأطفال الذين أصبحوا الآن جالسين متحلقين حول نقطة ما في تلك الحجرة المدورة، يواسي بعضهم البعض.. تركوا مشهداً مطبوعاً بمخيلتي فيه همسات عن أنهم لن ينزحوا، وأن القصف سيتوقف بعد قليل.. صمتّ أمام أملهم الذي كان عزيزاً في ذلك الوقت.

صرخت أمي "بيتنا راح"، بعد انفجارات قوية جداً هزت الملجأ. غضبت منها لذكرها فأل الشر، وبعد دقائق خرجت مسرعاً للبيت، كانت البراميل المتفجرة قد سقطت في حديقته فعلاً وشوهت مدخله، لفت انتباهي منظر عريشة العنب وقد سقطت وتداخل الحديد بالأغصان بالورق.. دخلت مسرعاً إلى أخي المريض الذي كان بمكانه كعادته، وكل شيء حوله مندثر والغبار يملأ المكان، كان صامتاً يراقب ما حوله مذهولاً بما حدث، حملته بسرعة للملجأ. هنا لم يخطر ببالي أن أصور، رغم أن مشهده وهو يجلس بين الأغراض المندثرة المغبرة كان مشهداً يصور حجم الإرهاب، لكن إنقاذه أهم، أم أن أرواحنا أهم من رصد الجريمة؟.

بعد أن هدأ القصف لدقيقتين عدت لحديقة البيت لأصور، رأيت دجاجة مقتولة تحت العريشة، تجاهلتها.. لم أكن أريد أن أرى أي مظهر من مظاهر الموت حتى على الحيوانات. أكملت إلى صدر المنزل، توقفت ونظرت إلى صندوق ذكرياتي منذ الطفولة كيف تشوه هيكله. أخرجت هاتفي لأصور ما هدمت البراميل، قررت الاعتماد على عدسة الهاتف، رغم أن الكاميرا أصبحت قريبة لا يفصلها عني سوى عشرين متراً، لكن لا أعلم لماذا أحسست أنها عشرون كيلو متر، وأن القصف سيصلني إن توجهت إليها.

من أحد المغارات الرومانية المستخدمة كملاجئ - بعدسة الكاتب

وفعلاً، ما أن أخذت صورة حتى توجّه صاروخ نحوي، لا أذكر كيف شعرت به، ما أذكره أني ارتميت أرضاً، والصاروخ انفجر فوق سطح بيتنا على بعد عشرين متراً مني فقط، سمعت صوت الشظايا تتطاير، كان إحساساً غريباً ومخيفاً لا أجيد وصفه، لكن سرعان ما تحول لثقة بالله أني سأسلم منها. عدت مرغماً للملجأ، حيث بدأت الراجمات والقذائف برشق القرية الصغيرة بموجة أخرى.

ظهرت في إحدى زوايا المغارة امرأة عشرينية مغبرة الملابس تضم طفلها وتبكي، لم تكن من حارتنا، سمعتها تقول لأمي حين سألتها "كنا بالمغارة وقصفها الطيران وهدمها علينا، ولا أعلم ما حل بمن كان معي، لكنهم بخير.. أظن أنهم بخير" أنا واثق أن المرأة لا تعرف مغارتنا ولم ترها بحياتها، لكني لا أعرف كيف وصلت إليها. وعندما تحدثت برعب وقلق ووصفت ماذا جرى بمغارتهم رأيتها بعين الصحفي، انتابني إحساس أنه يجب أن يرى كل العالم مشهدها الآن، كما أراه أنا: امرأة خرجت من ملجأ دمرته الطائرات فوق ذويها، تحتضن طفلها بقوة، لم يتسنَّ لها معرفة حال أهلها، لكن كان بيني وبين أن أوصل حالها هذا للإعلام عشرات الراجمات، وثلاث مروحيات وحربية فوق القرية، كلها تحول بيني وبين الوصول إلى الكاميرا.

أخرج جارنا سيجارة وتقدم لابنه الشاب قدمها وقال له "دخنلك سيجارة." لا يدخن الشباب في القرية أمام آبائهم، لكن الشاب أشعل السيجارة، ووالدي الذي لا يسمح بالتدخين أمامه لم يحتج.

انفجار قوي آخر أرعب الجميع أراد أن يخرج بعده جارنا، بدأ ابنه الصغير بالصراخ رافضاً خروج والده، وكأنه يخرج للموت، حتى صار يترجاه "بابا لا تطلع"، يكررها ويبكي حتى منعه من الخروج، مشهد دفعني للتفكير مجدداً بالمغامرة والخروج لإحضار الكاميرا، ومجدداً استسلمت، ثم أني لو قررت لن تسمح لي أمي. كنت أعلم أن بيتنا قصف لكن لم أجد طريقة لأخبرها بذلك، فأريتها الصورة.. أجهشت بالبكاء، ثم تركت كل شيء وركزت على حوض الورد الذي صرفت لصنعه يوماً كاملاً، أنجزته قبل القصف بيوم. قتلت البراميل لها حلم الورد، والقعدة الصيفية قربه.

هدأ القصف قليلاً، خرج الجميع للسيارات وبدأت الناس تنزح، لم أشاهد أحداً اطمأن على أحد سوى صديقة أمي "أم محمود الحموية"، أتت من الحارة الأخرى تلهث لتطمئن علينا، "الحمد لله على السلامة" ومضت مسرعة. انشغالي بتسفير أهلي كان أهم من أن أصور هلع الناس في الطرقات.. لم أستطع رصد آخر مشهد من أهوال القيامة.

دقائق وخلت القرية من البشر، لم يبق إلا بضع شبان هنا وهناك، وبضع رجال في المقبرة يجهزون قبراً. اختبأت خلف جدار معاكس لوجهة القذائف، وأخرجت هاتفي نقلت لزملائي بغرفة الأخبار ما جرى، ثم أتت المروحيات من جديد، دخلت لغرفتي وتساءلت ماذا سأخرج معي، ينتابني إحساس أنها قد تكون المرة الأخيرة التي أدخل فيها الغرفة، احترت ثم أخرجت كاميرتي المغبرة من القصف فقط وخرجت.

مع وصولي إلى الكاميرا وصلت المروحيات من جديد، غادرت قريتي ولم أوثق شيئاً من تفاصيل الجريمة في الخامس والعشرين من نيسان الماضي، ثلاث ساعات لم تعطني فيها ضخامة الجريمة فرصة لرصدها.. قبل مغادرتي التقيت بجاري في الدفاع المدني، وكان قد هدم القصف بيته، كلمني بحشرجة وهو يحبس الدموع، لم يرفع الأنقاض هذه المرة كما كان يفعل بمنازل الآخرين، ألقى بنظرة على ركام منزله ثم مضى.

من أحد المغارات الرومانية المستخدمة كملاجئ - بعدسة الكاتب