النازحات في إدلب.. مرارة الذكريات ومواجع الفقد

Artwork by Lubna Felo

عبثاً تحاول مرام الشيخ عثمان (40 عاماً) أن تنسى فقدها لاثنين من أبنائها أثناء قصف بلدتهم البارة الواقعة في جبل الزاوية قبل نزوحهم منها أواخر عام 2019، إبان العمليات العسكرية الأخيرة. 14 أيلول كان يوماً دموياً بالنسبة إلى عائلتها المؤلفة من زوجها وخمسة أبناء فقدت منهم حلا (3 سنوات) وحسام (6 سنوات).

تقول "كان يضج البيت بضحكاتهما وشقاوتهما. خطفتهما الحرب مني بسرعة البرق دون رحمة حين قصفت طائرات النظام والروس منزلنا محيلة إياه إلى خراب".

لا تستطع مرام إخفاء دموعها التي تنهمر كلما تكلمت عن تلك الحادثة، وكأنها حدثت لتوها رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات عليها. وكثيراً ما تحاول نسيان تلك التفاصيل الموجعة بانشغالها بعملها في مهنة الخياطة التي بدأت مزاولتها بعد نزوحها لتتمكن من مساعدة زوجها الذي قلما يجد عملاً، خاصة أنه عامل مياومة يعمل لساعات طويلة بأجور متدنية.

وتشكل زيارتها لجاراتها وتبادل أطراف الحديث معهم عن حياتهم وكيفية تدبير أمورهم وسط كل ما يواجهنه من مصاعب، متنفساً آخر لمرام التي تعمل على ملئ وقتها بشكل مستمر منذ أن لاحظت تقليب المواجع حين تكون بمفردها.

وحيث تعيش مرام بين تجمعات النازحين القاطنين في مخيمات عشوائية وغير منظمة تفتقر لأدنى مقومات الحياة شمال غرب سوريا، تعيش مآسي الغربة ومواجع الفقد داخل كل نازحة لم تعد الحياة البائسة كل ما يؤرق مضجعها في كل ليلة.

بابتسامة حزن يعلوها الألم وتنهيدة طويلة، بدأت الستينية خدوج المرعيان تستذكر أبناءها الذين وضعت الحرب نهاية لحياة بعضهم وشردت بعضهم الآخر بين معتقل ومهجر، لتنفجر بعدها بنوبة بكاء شديدة.

"كنت أتمنى أن أتوكأ على أبنائي الخمسة في كبري وعجزي، ولكني وجدت نفسي وحيدة في مخيمات بالية وذكريات مؤلمة بلا سند أو معيل أو حتى مأوى ملائم".

فقدت خدوج اثنين من أبنائها أثناء المعارك الدائرة بين الفصائل ونظام الأسد على أطراف مدينة معرة النعمان، فيما فقدت واحداً آخر حين اعتقلته حواجز النظام في المدينة، بينما رحل أحدهم لتركيا والآخر إلى أوروبا إبان نزوحهم الأخير.

تمر الأيام على المسنة المنكوبة وكأنها سنوات، تعيش فيها كل تفاصيل الحزن والضغوطات النفسية وآلام الأمراض المزمنة، وتعكس تجاعيد وجهها وعيناها الحزينتان قصصاً لم تعشها وحدها، بل عاشها السواد الأعظم من المدنيين ممن لم تغب ذكرى أبنائهم عنهم رغم مضي السنوات.

"ينهشني الحنين إلى تلك البلدة الصغيرة الواقعة على أطراف جبل الزاوية  والتي جمعتني وعائلتي لسنوات، وأكاد أفقد عقلي حين أتذكر تلك اللمة التي لم يبقى منها إلا الصور والذكريات العالقة في الذهن، ما يزيد وطأة الحياة الصعبة علي".

تشكو المسنة من ضغوط المعيشة والغلاء وانعدام الأمان، وتعتبر أن كل سوري خاسر، فوجع الحنين يقابله وجع العيش غير الكريم في مخيمات النزوح، ولا أحد يبالي بإيجاد حل لمعاناتهم المستمرة، وهي لا تعلم إلى متى ستتحمل عذاب الروح، وقد فاق صبرها "صبر أيوب".

تجتمع خدوج كل مساء مع مسنات مخيم سرمدا حيث تقيم مع زوجها العجوز بمفردهما، ويشكل لقائها معهن فسحة لتبادل الهموم والآلام ومواساة بعضهن البعض، فلكل من المقيمين في تلك المخيمات قصة مؤلمة يشاركها مع غيره وسط ما يعيشه الجميع من ظروف متشابهة في المخيمات.

تحصل خدوج على معونة شهرية من المنظمات الإغاثية الموزعة في المنطقة، تتألف من بعض الأرز والبرغل والمعكرونة والزيت والسكر والدقيق والعدس، تستهلك تلك المعونة شهراً وتبيعها وتستفيد من ثمنها في جلب بعض الحاجيات والأدوية الخاصة بالضغط والسكري شهراً آخر، إضافة إلى حصولها على مساعدة من أبنائها المغتربين كل مدة.

في شمال غرب سوريا حيث لامست الخيمة جارتها الأخرى، يعيش الجميع بمستوى متقارب من الفقر وضنك العيش، الشمس الحارقة صيفاً تخترق خيامهم البالية والبرد القارس شتاءً ينخر أجسادهم وأجساد أطفالهم . لكن لمواجع الحنين والفقد قصص أخرى تحمل في ثناياها شعلة شوق وحسرة لا تريد أن تنطفئ.

تجلس الأرملة مريم الكريم (52 عاماً) كل يوم شاردة الذهن أمام باب خيمتها، تسقي بعض الورود والنباتات العطرية التي زرعتها، ثم تفرد صفحة الذاكرة؛ ﻣﺸﺎﻫﺪ ﺍﻟﺪﻣﺎﺭ ﺍﻟﺘﻲ ﻃﺎﻟﺖ منزلها حين قتلت الطائرات الحربية ابنتها رهف بعمر العشر سنوات. تقول إن "الحياة لم يعد لها طعم أو معنى، عبثاً نحاول أن ننسى ما حل بنا وبعوائلنا. كم أتوق لرؤية قريتي وجيراني وزيارة قبر زوجي وابنتي".

تنحدر مريم من قرية التح جنوب إدلب، وتقيم في مخيمات قاح الحدودية مع ستة من أبنائها، الذين يعملون في مهن متنوعة وينفقون على أنفسهم وعليها. تتابع "ترك أبنائي الدراسة منذ زمن بعيد واتجهوا لتعلم المهن كالحلاقة والميكانيك والحدادة بإشراف ومتابعة من والدهم الراحل، وهاهم وجدوا ما ينفعهم في هذه الأوضاع التي ضاقت فيها الحياة على الجميع، مهنهم لا تغني ولكنها تستر الإنسان من السؤال والعوز".

وعن أثر النزوح والغربة والحنين على النساء قالت المرشدة الاجتماعية وفاء البكور (35 عاماً) أن اﻟﻨﺰﻭﺡ ﻭﺗﺒﻌﺎﺗﻪ حطم أحلام الكثيرات، وﻓﺎﻗﻢ مسؤوليات المرأة ومعاناتها، ﻭﻭﺿﻌﻬﺎ ﺗﺤﺖ ﺿﻐﻮﻃﺎﺕٍ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻴﺶ، وأجبرها على ﺍﻟﺘﻜﻴﻒ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﺨﻴﻤﺔ ﺑﻜﻞ ﺗﻔﺎﺻﻴﻞ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻴﻮﻣﻴﺔ.

وتضيف أن اﻟﻤﺮﺃﺓ ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﺔ ﺗﺨﻮﺽ ﻣﻌﺮﻛﺔ ﺍﻟﺘﺤﺪﻱ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ ﻣﻊ ﻇﺮﻭﻑ الحرب القاﻫﺮﺓ وسط الحرب والدمار والتهجير، وتحمل أعباء لا يستهان بها، من ﻣﺮﺍﺭﺓ ﺍﻟﻌﻴﺶ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺨﻴﻤﺎﺕ وتحمل ﺍﻷﻭﺿﺎﻉ ﺍﻟﻤﻨﺎﺧﻴﺔ والاقتصادية ﺍﻟﻘﺎﺳﻴﺔ.

وتشير إلى أن المرأة النازحة اليوم بأمس الحاجة للدعم النفسي والاجتماعي والمادي الذي ما زال مفقوداً حتى الآن، وخاصة بعد الظروف التي عاشتها وما تزال تعيشها من ألم الفراق والفقد وحنين العودة من جهة، وضيق العيش وضنك الحياة والفقر والغلاء وقلة الفرص من جهة أخرى.