الكرسي اللاصق

أسهمت معظم القوى الدولية في تمزيق المعارضة السورية في الخارج، ومنعت السلاح النوعي عن الثوار في الداخل، للحفاظ على هذا النظام الاستبدادي، الضعيف والممزق الأوصال، لأنه، بهذا الشكل، يخدم مصالحهم على أتمّ وجه.

طوال ست سنوات من عمر الثورة السورية كان موقف الحكومة الفرنسية من بشار الأسد ونظامه واضحاً وقوياً: عليه أن يرحل. غير أن هذا الكلام كان يدور في ظل تشابكات دولية وإقليمية أفقدته معناه، هذا إن كان له -حقاً- أي معنى! ولكن الرئيس الفرنسي الجديد، إيمانويل ماكرون، أدلى بتصريحات صحفية قال فيها إن رحيل بشار الأسد عن الحكم لم يعد شرطاً مسبقاً بالنسبة إليه، وإن «بشار الأسد عدوٌ للشعب السوري، ولكنه ليس عدواً لفرنسا». بكل بساطة، وبوضوح، يقلب ماكرون الموقف الفرنسي رأساً على عقب.

الحقيقة هي أن هذا هو الموقف الفعلي لمعظم الدول التي لها علاقة بما يحدث في سورية. إنهم يريدون نظاماً استبدادياً يترأسه طاغية يلعق أحذيتهم، والشعب السوري -بدوره- يقبّل حذاءه! ويستطرد الرئيس الفرنسي قائلاً: «لم أرَ للآن بديلاً شرعياً لبشار الأسد». ماذا يعني هذا؟ كان ينقص هذا المشهد التراجيدي الجوقة التي تردد -كما في مسرحيات اليونانيين القدماء- «بشار الأسد، بشار الأسد!» لإسدال الستار على هذه المسرحية!

لقد ذكرني هذا الكلام بعدة مفارقات تشبهه.

كنت أعمل في جمعية خيرية، وكانت انتخابات مجلس الإدارة ورئيسه تجري كل سنتين. كان مجلس الإدارة من حزب «معارض»، وفي الجمعية عدد من الموظفين من هذا الحزب. وكان رئيس مجلس الإدارة يقدم نفسه كمرشح وحيد في أغلب الأحيان، فينجح، طبعاً. لكنه، وقبيل كل دورة انتخابية، كان ينفذ مشروعاً نوعياً للجمعية، يقدمه لاجتماع الهيئة العامة التي ستنتخب مجلس الإدارة، فينال الاستحسان والإعجاب و... يتم انتخابه! وهذا بالضبط ما كان يفعله فلورنتينو بيريز، رئيس نادي ريال مدريد، عندما كان، وقبيل انتخابات رئيس النادي، يعقد صفقة ضخمة مع أحد أبرز نجوم كرة القدم، مثل زيدان الفرنسي، وفيغو البرتغالي، ورونالدو وكاكا البرازيليين، وبيكهام الإنكليزي، ورونالدو البرتغالي، فكان يضمن الفوز برئاسة النادي. وعندما تقدم هذا العام للانتخابات لم يترشح أحدٌ غيره، ففاز بالتزكية!!

وهكذا ظل رئيس مجلس إدارة جمعيتنا في منصبه مدة طويلة. وعندما كنا نسأل زملاءنا في الجمعية من حزبه: ألا يوجد أحد آخر ليقود الجمعية؟ كان الجواب يأتينا على شكل كاسحة ألغام: ومن هو البديل؟ فنضحك كثيراً ونقول لهم: نفس عقلية النظام. لا يوجد بديل لحافظ الأسد، وابنه بشار، وأولاده من بعده!

وبعد مدة طويلة غادر «الرئيس» مجلس الإدارة ورشح نائبه. وكسلفه في كل دورة انتخابية، كان يفوز برئاسة مجلس الإدارة بالإجماع. وفي كل مرة كنا نكرر على الزملاء السؤال ذاته، وكان يأتينا الجواب: لا يوجد بديلٌ له!

*          *          *

مرة، في بداية الثورة، عندما كانت الصورة الأوضح هي صورة المتظاهرين يطالبون بالحرية، وكان من ضمن مطالبهم استقالة الطاغية وانتخابات رئاسية جديدة؛ كنت جالساً مع صديق لي، ضابط برتبة دنيا من طائفة الحاكم، نتبادل الحديث عما يجري في المحافظات. سخر جليسي كثيراً من مطلب رحيل الأسد وإجراء انتخابات رئاسية، وقال لي باستغراب: من سيرشح نفسه بديلاً عن السيد الرئيس؟ أجبته على الفور: أنا!! صُعق الرجل وقال لي: اللعنة عليك! أخفض صوتك. لو سمعنا أحد فسوف نهلك! قلت له بهدوء، مدعياً السذاجة: لماذا؟ ألا يحق لي حسب الدستور السوري أن أرشح نفسي للرئاسة؟ إنني -بذلك- أمارس حقاً كفله الدستور. أجابني على الفور: (...) عليك وعلى الدستور! هل تشرب القهوة؟ ثم طلب من النادل فنجانين من القهوة وغيّر الحديث باتجاه كرة القدم!!!

*          *          *

أثناء المظاهرات السلمية في مدينة حلب صعد رجل عجوز إلى باص النقل الداخلي الذي كان مكتظاً بالركاب، فوقف وأمسك بحديد أحد الكراسي متكئاً عليه. كان عدد من الفتية يجلسون على الكراسي يتكلمون عن مظاهرة كانوا قد شاركوا فيها، وهم عائدون منها للتو. كانوا يتكلمون بحماسة عن كيفية هروبهم من رجال الأمن والشبيحة الذين أتوا لتفريق المتظاهرين، وكيف أنهم سيواصلون التظاهر حتى إسقاط بشار الأسد، والرجل العجوز يستمع إليهم بانتباه. وعندما توقفوا عن الحديث قال لهم: «يا أولادي، لن يتنازل بشار عن الكرسي، ولن تستطيعوا إرغامه على ذلك!» فسأله أحدهم: لماذا يا حجي؟ فأجابه العجوز: «منذ أن صعدت إلى الباص وأنا واقف على قدمي ولم يتنازل لي أحدكم عن «كرسيه»، فهل سيتنازل «رئيس جمهورية» عن كرسيه لكم؟!».