العشيرة المنفعلة
تلملم تراثها والمستجدات والدماء

جاء الإصداران الأخيران، «أحياني بدمه» و«أولئك آبائي»، عن المكتب الإعلاميّ لـ«ولاية الخير» في تنظيم الدولة الإسلامية، صادمين ومحرجين للثوار ولحاضنتهم الاجتماعية في دير الزور. وأعادا إثارة العديد من الأسئلة التي طرحها الحراك الثوريّ سابقاً على الفاعلين فيه: إلى أي مدىً تؤثر العشيرة في شخصية وخيارات أبنائها وسياقات الأحداث التي يعيشونها؟ وهل يستطيع، أو يرغب، أبناء العشائر في التخلي عنها لصالح انتماءٍ أوسع؟ وما العلاقة التي تجمع تنظيم الدولة بالعشيرة في دير الزور؟ وقبل كل ذلك، هل ما زالت العشيرة موجودة؟!

ما إن انتشر إصدار «أولئك آبائي» حتى انبرى إعلاميون من دير الزور للتصريح بأن الرجال الذين قاموا بإعدام الضحايا فيه قد «أجبرهم التنظيم على ذلك»، محاولاً جرّ عشائر المحافظة إلى صراعٍ داخليٍّ باختلاق «فتنةٍ جديدة». وأظهر الإصدار أربعة رجالٍ يعدمون أربعة شبانٍ -يتهمهم الإصدار بالتجسس لصالح التحالف- انتقاماً لأولادهم الذين قتلوا مع التنظيم. ونفذ الرجال الإعدام باستعمال «بواريد البرنو» المرتبطة بالتراث المحليّ، مكشوفي الوجوه، بخلاف إصداراتٍ سابقة، وبلباسٍ تقليديّ. وبغضّ النظر عن نوايا التنظيم فقد تجاهل الجميع إرادة هؤلاء التي، على ما يبدو، تماهت مع إرادة التنظيم. فجميعهم متورّطون معه بشكلٍ أو بآخر، وأصبح بقاؤهم من بقائه. لكن الغريب أن أسماء الرجال لم تظهر على الساحة الإعلامية، حتى الآن، بل ظلت حبيسة الأحاديث والصفحات الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، رغم أن «الناس تعرف بعضها» في الدير، كما يقال.

أما إصدار «أحياني بدمه»، وقد لاقى المصير ذاته من جهة كتم الأسماء، فيعرض ثلاثة أطفالٍ يعدِمون -في مدينة ألعاب- ثلاثة شبانٍ من الحسكة، يقدّمهم الإصدار على أنهم عملاء للبي كي كي. وفيه يظهر «أبو البراء الشامي» في عمرٍ لا يتجاوز الثلاثة أو الخمسة أعوام، كما أراد له معدّو الإصدار، لكن إعلاميين توصلوا إلى أن الشامي (حمزة هيثم الحسين)، المصاب بخللٍ في الغدة النخامية جعله متخلفاً عن أقرانه، في الثانية عشرة. وهو ابن «أبو عمار بغيلية»، القياديّ المعروف في مدينة دير الزور، ثم في صفوف التنظيم كقائدٍ عسكريٍّ لتل أبيض، قبل أن يقتل في غارةٍ للتحالف منذ أكثر من سنة.

ودافع البعض عن منع أو تظليل إعلاميين محليين لأسماء المشاركين في الإصدار بأن نشر أسمائهم «رسالة دم». وبحسب أحد هؤلاء، وهو قائد فصيلٍ عسكريٍّ سابق، فإن من قُتلوا هم «أبناء عرب»، ولن يترك أهلهم الأخذ بثأرهم، ونشر الأسماء سيساعدهم في الوصول إلى أهل القاتل، وعندها لن يقتلوه، بل سيختارون أفضل شخصٍ بين أقربائه لقتله.

في البدء كانت العشيرة

بالطبع لم تبق العشيرة كما هي، عندما كانت تحرّكها روابط الدم، أو ما يشبهها، في المقام الأول، وتملك اقتصادها وقانونها المستقل، ولها مرجعيةٌ واحدةٌ في قراراتها، لتصبح في النهاية مجتمع ووطن أبنائها الذين يرتبط وجود أحدهم بوجود البقية، وتكوّن ثقافتهم وأرضيتهم المشتركة.

بدأت أولى الهزّات تصيب العشيرة مع محاولات توطينها وربطها بالأرض، واستقطابها من قبل القوى العالمية المؤثرة في المنطقة، منذ قرنٍ تقريباً، ثم خضوعها لسياسات الدولة الوطنية وقوانينها ومؤسساتها، بنسبٍ متفاوتة. ورغم احتفاظ الكثير من شيوخ العشائر بمكانتهم الاجتماعية، إلا أن منافسين كثراً قد ظهروا أيضاً، كالمخاتير والأثرياء ورؤساء الجمعيات الفلاحية وأمناء الحلقات الحزبية والضباط والمسؤولين الكبار، ويضاف إليهم القادة العسكريون الذي ظهروا بعد الثورة. وحتى بين من شبّ عن طوق العشيرة من جميع هؤلاء، هناك من عاد ليتمثل شخصية الشيخ على المستويين الاجتماعيّ والثقافيّ في ما بعد، حتى تمكن تسميتهم بـ«الشيوخ الجدد»، ولا سيما أثناء الثورة، عندما أحست الغالبية بالحاجة إلى الحماية التي تقدمها البنى الأهلية.

آباء وأبناء

يدافع الكثيرون عن وجود العشيرة، ويرون أنها ما زالت بفاعليتها القديمة وتماسكها المتين، دون النظر إلى الشروخ والتصدعات التي أصابتها على مدى قرن، وليس أثناء الثورة فحسب. ويمتزج دفاعهم عن العشيرة برغبةٍ عاطفيةٍ تنظر إلى هذه البنية كما يجب، أو كما يتمنون لها أن تكون، غاضين الطرف عن الأرضية الهشة التي أصبحتها. يصف أحد شيوخ عشائر دير الزور العشيرة بأنها «صلة رحمٍ ورابطٌ أخلاقيٌّ موروث». ورغم أنه يقرّ بتفككها، بفعل عوامل اقتصاديةٍ أو سياسيةٍ جديدةٍ عليها، لكنه يرفض وصفها بالمنهارة، ويدلل على ذلك بأن الكثيرين من معارفه في المدن الكبيرة، كالشوام، ما زالوا يعتزّون بأصولهم العشائرية. بينما لا يرى آخرون في العشيرة أيّ نفع، بل يرونها وبالاً على المجتمع السوريّ. يقول محامٍ من دير الزور: «عرّت الثورة موبقات العشيرة السبعة»، رغم أن له امتداداً عشائرياً وهو منغمسٌ فيه إلى حدٍّ ما. ويسرد، للتدليل على رأيه، قائمةً طويلةً من الشيوخ والوجهاء العشائريين الذين اختاروا الوقوف مع النظام ضد رغبة أبناء بلدهم، كما يذكّر بشيوخٍ استقطبتهم بعض دول الخليج، كالإمارات، ليتركوا في النهاية أوساطهم الاجتماعية. ويذهب المحامي أبعد من ذلك حتى الطعن في مواقف بعض الوجوه العشائرية المحسوبة على قوى الثورة، إذ يرى أنها سايرت التيار لا أكثر. ورغم حدّة هذه الآراء فإن فئاتٍ واسعةً تتبنى آراءً قريبةً منها بشكلٍ أو بآخر، خاصّةً في المدن والأوساط الثورية في الريف. ومع غياب بنىً اجتماعيةٍ أو سياسيةٍ متقدمةٍ على العشيرة، وغياب قوىً تقدم حماية القانون، هل ستكون نهاية الوجوه الثورية كشيوخٍ جدد؟

كل عشيرة تنظف وسخها!

تظهر جملة «كل عشيرة تنظف وسخها» اليوم في سياق المحاولات المتكرّرة لتشكيل أجسامٍ سياسيةٍ أو مدنيةٍ أو قانونيةٍ أو أهليةٍ تعمل على إخراج دير الزور مما ينتظرها بعد تنظيم الدولة من نزاعاتٍ عشائريةٍ قد تكون أسوأ بكثيرٍ من جميع الحروب السابقة. تطرح الجملة كشعارٍ عرفيٍّ متفقٍ عليه إلى حدٍّ ما بين الوجوه العشائرية، ويراها البعض محاولة تطمينٍ أو تهدئةٍ للنفوس، بينما تبدو مبطنةً بالخوف من الآخر وعدم الثقة، وبالنكوص إلى تقاليد قديمة. ويضع الكثير من الفاعلين والوجهاء والشيوخ نصب أعينهم، عند طرح هذا العرف، ما يمور بين المتضرّرين من التنظيم، خاصّةً أبناء الشعيطات، من حقدٍ وغضبٍ واتهام فئاتٍ عشائريةٍ بعينها بالوقوف وراء المجازر التي ارتكبها التنظيم في حقّهم. بينما يذكّر الكثيرون في هذا المجال بالعناصر الشعيطية المبايعة التي أسهمت، بهذا القدر أو ذاك، في المجزرة.

ولشرح أسباب التوجس من الانفلات الدمويّ الذي ربما تكون عليه الأمور بعد التنظيم يعود الفاعلون بذاكرتهم إلى عرفٍ ثأريٍّ قديمٍ يسمّى «القتل بالخامس»، وفيه يطال الثأر أيّ شخصٍ من أقرباء القاتل الذين يجمعهم به الجدّ الخامس، وكذلك يطالهم التهجير جميعاً. ويتذكر كبار السنّ أن عشائر الزور اجتمعت، في خمسينيات القرن الفائت، ووضعت حدّاً لهذا العرف بالاتفاق على أن الثأر لا يخصّ سوى القاتل، ولا يُرحّل به إلا «شركاء الماعون»، أي من يأكلون سوياً. لكن الأمر عاد، بوتيرةٍ متصاعدةٍ مع ظهور السلاح، إلى قتل أفضل شخصٍ في العائلة أو الفخذ. ويشكك البعض، خاصةً من مدينة دير الزور، في شعار المحاسبة الذاتية المطروح «كل عشيرة تنظف وسخها»، في ظل الحماية التي حظي بها في السنوات القليلة السابقة مسؤولون من دير الزور، كأعضاء قيادة فرع حزب البعث أو مجلس الشعب، بسبب امتدادهم العشائريّ، بينما قتل عناصر وموظفون صغارٌ في الأجهزة الأمنية، أو غيرها.

إجراءات «القصاص» العشائرية

من المعروف أن تنظيم الدولة استغل العشيرة إلى أبعد الحدود، ووظف رمزيتها ورجالاتها في الوعي الأهليّ لخدمة تمدده واستقطاب عناصر جدد، حتى أن البعض يتحدث عن مبالغ كبيرةٍ عرضها، أو قدّمها، أمراء محليون في التنظيم لشيوخ عشائر مقابل مبايعتهم، أو حتى السكوت عن الأدوار الجديدة التي راحوا يحتلونها. وفي حين التزم شيوخٌ ووجهاء بيوتهم طوعاً، بما يشبه الاستقالة من الحياة العامة، بادر آخرون إلى لعب دور صمام الأمان في الوساطة لدى قيادات التنظيم، لحماية العشيرة وتجنيبها مصيراً أسود وضعها أمامه بعض أبنائها الذين قاتلوا التنظيم المتوحش أثناء حربه للسيطرة على دير الزور.

يتمتع عناصر محليون في التنظيم، بينهم وجهاء وشيوخ، بمكانةٍ في سلم سلطته في المنطقة. وتمرّ من خلالهم الكثير من تجاوزات القانون الذي يفرضه على سكان الأراضي التي يسيطر عليها. لكن، رغم ذلك، فإن فئاتٍ محليةً ترى أن التنظيم يعامل الجميع على حدٍّ سواء. وقد يعود الأمر، في جزءٍ منه، إلى ما يتداوله الأهالي من أفكارٍ وشعاراتٍ نظريةٍ انتشرت في السنين الأخيرة تفيد برفض العشائرية، كحديث «دعوها فإنها منتنة»، بالإضافة إلى إرث جبهة النصرة، كمقولة أبو ماريا القحطاني التي ما زالت حاضرةً في الأذهان «العشائرية تحت قدمي»، والنظر إلى قادة التنظيم كحاملين للأفكار نفسها.

لكن الطريقة التي ينفذ بها التنظيم أحكام «القصاص» تبقى أهمّ ما يدفع الكثيرين إلى احترامه من هذا الجانب، رغم اختلافهم معه. ففي أكثر من حادثةٍ نشب فيها نزاعٌ عشائريٌّ أدّى إلى القتل تدخل التنظيم بقواتٍ كبيرةٍ وطوّق المنطقة، واعتقل الذكور من عائلة القاتل، وجميع من يساند أقارب المقتول للأخذ بالثأر (قد يصل العدد إلى المئات)، ثم طلب منهم ندب شخصٍ أو أكثر للتفاوض، ليعرض عليهم الصلح وأخذ الدية، فإن قبلوا دفعهم إلى إتمام الإجراءات، بحسب العرف، لدى أحد الشيوخ أو الوجهاء، وفرض على القاتل ترك البلد، أما إن لم يقبلوا فيتولى التنظيم أمر إجراءات القتل عبر عناصره. وقد ولّد ذلك المزيج من الحزم في ضبط الموضوع والتساهل في الإجراءات شعوراً بأن التنظيم ندٌّ عشائريّ، إذ يتصرف كعشيرة، حتى أن أحد أبناء الريف يقول: «إلنا زلمة عند الدولة قتله مهاجر مصري، بعثوا علينا مشان نعفّ، بس ما قبلنا».

تنشط العشيرة، كبنيةٍ ذات حضور، في غياب السلطة أو فتورها، لكن مع رياحٍ مواتيةٍ اقتصاديةٍ أو عسكرية، ليبدو دورها في المحصلة مثل دور الرجال في مراسم الزواج التقليديّ، إذ يأتي بعد أن تكون النساء قد أتممن كل شيء. فهل سيكون للعشيرة بعد التنظيم كلامٌ آخر؟

من إصدار داعش «أحياني بدمه»