أمهات العيد

معبر باب السلامة - خاص عين المدينة

لا أحد يجيد العيد كالأمهات. وحدهن يعرفن التوابل التي توضع للكعك، وكيف يخبئن طحين المعمول، ويخفين في التبن جوزاً أخضر لتلك المناسبة، و«وقدة» قش لخبز التنور. يرسمن ابتساماتهن بسرعة ليحملن حزنك. لا يمتزج بكاؤهن بالحرقة وليس له صوت العويل. وأيديهن، التي امتلأت شقوقها بدهن القطن، تنسحب بسرعة حين تركع على ركبتيك لتقبيلها، لتضمك وتربت على كتفك.

هكذا تستقبل الأمهات أولادهن العائدين إلى الوطن، الوطن الذي تحول إلى خيمة نزوح أو كرفانة في مخيم أو بيت يُخسّرك كل نقودك كل شهر، الوطن الذي لا تعلّق الأمهات الأمنيات على جدرانه على شكل «مسارب كعك مالح بالعصفر»، ولا تغطينها بالستائر البيضاء التي طرزت عليها صورة خيل متقابلة وعرق أخضر والكثير من البياض؛ ولكنهن تكتفين بوضع صور أبنائهن من الشهداء والمعتقلين والمهاجرين والمنفيين. لا أحد كالأمهات يجيد انتظار اللاشيء.

أمام بيتنا القديم في جبل الزاوية كانت أمي تنتظر، واضعة راحة يدها تحت ذقنها في عادة قديمة ورثتها كل الأمهات في سوريا. هي، وأمهاتٌ جاراتها، أدمنّ الجلوس في فسحة البيت، يحملن مسابحهن «المية وحبة» ويبدأن تسبيحهن كل يوم. قالت لي أمي إن «الوِرد» كان دائماً على نيّة أطفالهن. لم تعد عجائز سوريا تتذكرن أوجاعهن، وأمراض الضغط والسكر وتآكل الغضروف وديسك الظهر الذي حنى ظهورهن. تجاهلن الدواء والدعاء، واكتفين بالذاكرة.

حين وصلت وانحنيت لتقبيل يدها كان الوقت قد قارب العصر. ضمت رأسي براحتيها، قبلت وجعها، وأدخلتني إلى حيث رائحة الحبق. على الدرج الإسمنتي القديم كانت صحون الكعك تأخذ مكانها بالقرب من نباتاتها، وعليها رشة السكر الأبيض.

                                   *          *          *

كان المعبر مزدحماً. احتل آلاف الأشخاص الأرصفة وتشبثوا بأماكنهم منذ ساعات المساء ليقضوا ليلتهم بانتظار دورهم. اجتمعت دوائر منهم خلف بعضها، يحملون حقائبهم وأطفالهم وخوفهم الذي بدأ يتسرب في المكان. أسئلة كثيرة تدور. نحن السوريين نجيد التعارف بسرعة، وننفض قلوبنا أمام المارة. أكثر الأحاديث عن الخوف على طريق العودة، وإن كانت تركيا ستقبل بعودتنا أم أن المعبر سيغلق لأمر ما. كان بعضهم خائفاً من انتهاء الهدنة الهشة وعودة الطائرات للقصف. آخرون كانوا يمسحون ما على أجهزتهم من صور أو مقاطع صوتية حذراً من المرور على الحواجز. أحدهم كان يسأل، لا على سبيل النكتة فملامحه الجادة كانت توحي بصدقه: «أنا حلقت دقني، معقول يعملولي مشكلة؟». صفعتنا امرأة، في الدائرة التي اتسعت، حين سألتنا إن كنا ما نزال نتذكر الطريق إلى بيوتنا ووجوه أهالينا.

كان الناس يتبادلون أوراق الإجازات ليتأكدوا من أهميتها، والتي كانت أشبه بصكوك عودة مبكرة كان الجميع يحملها؛ هذا مدرّس من مدرسته وعليه الالتحاق خلال أيام، وآخر من رب عمله. وضعت يدي في جيبي لأطمئن أنا أيضاً على الورقة التي تحدد نهاية إجازتي في العاشر من تموز. ارتحت لفكرة وجودها معي، لأعاود عادتي في مراقبة الوجوه.

ساعات مرت وحجّاج الوطن في تزايد، راجلين بعد أن منعت الحكومة التركية السيارات من الاقتراب لنحو كيلومترين تجنباً للزحام وللحوادث. يصلون، يراقبون الأعداد، يصفّرون، بعضهم يطرق يداً بيد تعبيراً عن حجم المشكلة، ثم يستسلمون لدائرة أخرى من الانتظار.

حين فُتح الباب في السابعة صباحاً، للدخول عبر ممر طويل إلى الساحة الأخرى الملاصقة لباب المعبر، تناثرت الذكريات والخوف والتعارف على الأرض، وبدأت رحلة «دبر حالك» في «التدافش» للوصول إلى الطرف المقابل. حقائب تصطك بالإسفلت فيقشعر بدنك لصوتها، ونساء تصرخ، وشباب يتجاوزن أهاليهم. «خلال سنوات الثورة رأينا القيامة مرات عديدة»؛ قلت في نفسي وأنا أحمل حقيبتي لأقف في الممر الطويل. لم يعد يوم القيامة مشهداً متخيلاً لنا نحن الذين نزحنا مرات عديدة وهُجّرنا من بيوتنا، رأيناه في مدينتي حلب وفي المعابر وفي الباصات الخضر وفي رحلات «البلم» إلى أوروبا وفي طرق التهريب إلى تركيا. قيامات كثيرة كانت تعيد نفسها أمامي. المميز هذه المرة أنك لم تعد تفكر في نهاية الطريق، كل ما يهمك هو الوصول إلى الضفة الأخرى، إلى «الجنة» إن صح التعبير.

حين وصلت إلى باب المعبر كانت الساعة قد قاربت العاشرة، والشمس قد استقرت فوق رؤوسنا تماماً، فلا ظلال على الأرض. الشباب أشرعوا سجائرهم، والنساء تضم صغارها، والعجائز يجلسون القرفصاء على حقائبهم ليستظلوا بقامات ذويهم. كان الأمر في المعبر سهلاً إلى درجة لا تصدق، في ساعة واحدة قطعت الجانب التركي لأدخل هواء سوريا. في الصالة المعدة لاستقبالنا كان الجميع يرحب بالقادمين، وعلى الرغم من أننا في رمضان كان هناك من يوزع الماء البارد. بعد أن قطعت وصل الدخول في الجانب التركي أعطيته للموظف السوري مرفقاً إياه بالورقة التي تحدد نهاية إجازتي. نظر في الورقة ثم في وجهي وأخبرني أن لا مجال للعودة قبل شهرين، فكل الأدوار قبل ذلك قد ملئت. حاولت معه بشتى الوسائل ولكنه لم يستجب، وطلب مني أن أنظر في دفتر الدور ثم أن أفسح المجال لمن هم ورائي. كاد حجم الصدمة يقعدني. كثيرون بدأوا بالنحيب واللطم والحديث عن فقدان أعمالهم في تركيا وعن عائلاتهم التي تركوها في الجانب الآخر. أحد العمال الذين يحملون الحقائب قال بصوت عال وهو يمر بجانبنا: «ما عاد استحملتوا شهرين بالبلد!».

صارت لكل منا حياة في مكان آخر، عليه أن يدافع عنها بأظافره. صار لكل منا وطن بديل وبيت بديل وأماكن بديلة وحتى عائلات بديلة. أبو أحمد، وهو رجل خمسيني من الأتارب رافقني طيلة الطريق، كان يضحك. وحين نظرت إليه قال: «أنا رجعت لهون، ما عاد أرجع لتركيا». مر من أمام الموظف دون أن يأخذ دوراً للعودة، وحين طلبت منه أن يفعل قال: «ما بدي تسوّل لي نفسي الرجعة».

                                             *          *          *

كانت تحضيرات العيد في القرية مختلفة عن العيد السابق. بدأ الناس يشعرون بالأمان نوعاً ما، فالطيران لم يزر قريتي منذ أشهر. العائدون الكثر من تركيا لقضاء إجازة العيد أضفوا جواً من المحبة وحركة في الأسواق، فعادت إلى الساحة محلات الألبسة و«بسطات الشوكولا والكراميلا والتخليطة»، وفي منتصفها نصبت ثلاث مراجيح. حال معظم القرى التي مررت بها كان يشبه حال قريتي، مظاهر العيد منتشرة والأسواق مزدحمة. بدأ الناس يرتكبون الحياة رغماً عنهم على جدران البيوت المهدمة. صارت الأصوات تعلو بعد أن استسلمت للصمت لسنوات كثيرة. كل شيء يشي بالعيد إلا الفرح، وحده الغائب رغم ما يدور من صخب.

بدأ انقسام واضح يظهر في البيئة الاجتماعية هنا. فالأسئلة الكثيرة التي كانت تطرح علينا، عن الحياة والعمل واللغة، كانت مجاملة لا تتجاوز الدقائق للدخول في أحاديث كثيرة عن المستقبل والتقسيم والاقتتال والدور العربي والتركي. الحديث عن الثورة حاضر بشدة، والجميع في حالة جدال؛ أهل القرية والشباب الثائرون الذين يحملون أسلحتهم حتى في زيارات المعايدة، لتذكيرنا نحن النازحين بتخلينا عن الوطن، والعائدون الذين كانوا يمضون معظم وقتهم على صفحات التواصل الاجتماعي منتقدين المقاتلين والخلافات بين الفصائل، ليثبتوا لأنفسهم أن سفرهم كان خياراً صائباً. في حين اقتصرت أسئلة شباب القرية الحالمين بالدخول إلى تركيا عن الطرق وكلفة المهرّب وطبيعة العمل والحياة، أما الشيوخ المتشبثون بـأرضهم فحمدوا الله رغم الظروف القاسية، والأمهات منقسمات بين رغبتهن في بقاء أبنائهن وبين إرسالهم بعيداً خوفاً من موت جديد يُعلّق على الجدران.

في اليوم الأول للعيد كانت مقبرة القرية، والتي امتدت حتى كادت تلتصق بالبيوت، هي المكان الأكثر ازدحاماً. لم يكن هناك بيت إلا ورافقه الفقدان والبكاء في هذه الساعات الأولى من الصباح. جلست الأمهات على أطراف قبور أولادهن، لم يحملن كعادتهن حبات الملبس لتوزيعها على أرواح أمواتهن، اكتفين بملامسة القبور اليابسة التي غابت شواهدها، قلوبهن تدلهن على الطريق في الوقت الذي تهنا فيه كلنا.

عدت إلى أمي وكان المشهد قد تغير. فالفرح المغشوش تلاشت ملامحه، صدى الخوف والقذائف والهرولة والفقر ملأ الشوارع، البيوت شاخت، صور الشهداء والمعتقلين ملأت صدور البيوت، وأطفالهم في العيد غصة كل عائلة. على مصطبة البيت جلست ألتقط أنفاسي. انتزعت سيجارة. بللتها بريقي وبدأت أنفث دخاني باحثاً عن مكان لم يسكنه الدمار. اقتربت أمي من وجهي لتعيدني إلى الحياة مع رائحة قهوتها.

من جبل الزاوية - خاص عين المدينة