أربع سنواتٍ على المنفى، أربع سنواتٍ على المجزرة

نعم، أكملت، اليوم، سنتي الرابعة خارج سوريا. أربع سنواتٍ هي المدّة التي تحكم فيها أيّ حكومةٍ في مختلف بلدان العالم القائمة على انتخاباتٍ دورية، ما لم يسحب منها البرلمان تفويضه. ويتشكل البرلمان، بدوره، كل أربع سنوات، بناءً على تفويضٍ من الشعب عبر صناديق الاقتراع.

غير أن للزمن السوريّ رأيٌ آخر. فلا تعدو السنوات الأربع المنقضية كونها جزءاً من المأساة السورية التي ستدخل، بعد بضعة أشهر، سنتها السابعة، في حين أن النظام الحاكم في سوريا قائمٌ على «الأبد» أي اللازمان. فقد الزمان، مع هذا النظام، طبيعته السيالة المتحركة تعريفاً، ليحل محله السكون المطلق كمثل رسوخ المكان. المكان الفارغ فراغ السديم بين النجوم والمجرات.

وإذ قرر السوريون، ذات يومٍ من شهر آذار 2011، أن يدخلوا الزمان، كباقي خلق الله، ويمسكوا بمصيرهم، للمرّة الأولى منذ أكثر من نصف قرن، انهالت عليهم حمم الجحيم من كل اتجاه، فخاضوا التجربة الشاقة في طريقهم نحو الحرية، في مسارٍ دمويٍّ هو الأكثر مأساويةً منذ الحرب العالمية الثانية.

ربما كان قرار الخروج من أصعب القرارات التي اتخذتها في حياتي، لأنني كنتُ أدرك، في قرارة نفسي، أن العودة لن تكون قريبة، خلافاً للمأمول. فالسنتان اللتان سبقتا هذا القرار، بفترتيهما السلمية والمسلحة من الثورة، أثبتتا أن هذا النظام لن يرحل بالمظاهرات، ولا بالسلاح. فقد واجه الأولى بالعنف الشديد وبالأكاذيب، والثانية بسلاحٍ أكثر تفوقاً وفتكاً وبمزيدٍ من الأكاذيب. ولم يبق من أملٍ في نهاية المأساة الوطنية سوى بضغوطٍ دولية، معزّزةٍ بزخم الثورة المستمرّ، تجبره على الرحيل.

كانت رحلة الخروج طويلةً ومحفوفةً بالمخاطر. خرجنا من الجهة الغربية، عن طريق دارة عزة، باتجاه عفرين، ومن هناك إلى إعزاز فبوابة باب السلامة، ثم كلّس وأخيراً عنتاب. رحلتنا التي بدأت في منتصف النهار تقريباً انتهت في الثامنة ليلاً. لم يفارقني الخوف إلا بعد آخر حاجزٍ للنظام في مدخل حلب الغربيّ. ثم مررنا على عدة حواجز لفصائل عسكريةٍ معارضة، كثر ظهور الملتحين السلفيين عليها. كان الجهاديون الأجانب أكثر من يثير الخوف، فقد عرفوا بقسوة القلب وغلظة الضمير، يحتكمون إلى السلاح في مواجهة المدنيين العزّل عند أيّ مسلكٍ يعتبرونه «كفراً»، بما في ذلك مجرد مخالفتهم في الرأي أو التصدي لممارساتهم. قرار القتل أسهل من شرب الماء، بخلاف تعاليم القرآن الكريم التي حرَّم فيها «القتل بغير حق» بصراحةٍ لا يمكن الجدال فيها. شرط «الحق» هو الذي يتلاعب به أصحاب السلاح والغلبة، فيديرونه كيفما شاءت أهواؤهم ومصالحهم الدنيوية.

ثم جاء المقطع الأخير من مسار رحلتنا داخل الأراضي السورية، حيث سيطرة «قوات حماية الشعب» وحواجزها على مداخل القرى والبلدات الكردية. وإذا كان مسلحو هذه القوات عرفوا بانضباطهم العسكري الجيد، بالقياس إلى فصائل الجيش الحرّ، فلا شيء يضمن عدم تعرّض المرء للخطر على حواجزهم عند أقل اشتباه، وإن كانت حدود هذا الخطر لا تصل إلى احتمال القتل.

حين انتقلنا إلى الطرف التركيّ من الحدود انتهت كل المخاوف، لتحل محلها هواجس من نوعٍ مختلفٍ تماماً: أين سنبيت الليلة؟ هل سنتمكن من استئجار بيتٍ في هذا الوقت المتأخر؟ وأيّ حياةٍ جديدةٍ تنتظرنا في البلد المجاور؟ أي أننا انتقلنا، دفعةً واحدة، من جوّ الحرب وانعدام شروط الحياة الطبيعية إلى جوّ الأمان ومشكلات الحياة العادية. طوال الطريق من كلّس إلى عنتاب كان الشعور بالأمان ضاغطاً بطريقةٍ مرهقة: هل يعقل كل هذا التفارق بين حالتين تفصل بينهما كيلومتراتٌ قليلة؟ كنتُ أقرب إلى البكاء مني إلى تنهيدة الارتياح. ما الذي حلّ بنا «هناك» على الطرف الآخر من الحدود؟ هل يعقل أن يتطلب انتقال السلطة كل هذا الخراب والدمار والدم؟ هذا الانتقال الذي يتم بصورةٍ روتينيةٍ حدّ الملل، في كثيرٍ من بلدان العالم، ومنها تركيا التي أصبحت على أراضيها؟

في غضون ذلك لاحظت صوراً كبيرة لرجب طيب إردوغان، على لوحاتٍ إعلانيةٍ على جانبي الطريق، كتب عليها «بلدية غازي عنتاب ترحب بالسيد رئيس الوزراء». قلت في نفسي مستغرباً: «إذن، عندهم أيضاً شيءٌ مما عندنا!». فعلى رغم شعبية الرجل وإنجازات حكومته الباهرة، في السنوات السابقة من حكمه، لم أتوقع أن أرى في تركيا أياً من مظاهر تقديس الحاكم الفرد.

غير أن الخبر الكارثيّ الذي وجدناه في انتظارنا، عند وصولنا إلى المدينة، قد جبّ كل مخاوف الطريق، وهواجس الغربة، وغرابة تقديس أردوغان: قصفت طائرات النظام الحربية جامعة حلب، ظهيرة هذا اليوم المشؤوم، أثناء أداء الطلاب امتحاناتهم النصفية. الحصيلة مرعبة: أكثر من ثمانين شهيداً، هم انتقام النظام المجرم من طلاب جامعة الحرّية التي شهدت، قبل أشهرٍ، إحدى أكبر المظاهرات في مدينة حلب.

عرفت، إذاً، لماذا كاد الشعور بالأمان أن يدفعني إلى البكاء.