خواطر لاجئ سوري في تركيا

Catarina Garcia

للعينين فعل لا إرادي دائم هو إطباق الجفون وفتحهما. ولكن كم تمنى من أعماق قلبه أن يتوقف هذا الفعل لدقائق! أن «يغرف» أكبر قدر ممكن من صور الناس الطيبين والبسطاء في قريته!! أكبر قدر ممكن من الشوارع والبيوت والحقول في بلاده! هي ما تُسمّى نظرة الوادع.

هكذا كان يفكر ذاهلاً والسيارة تمضي به ضمن الأراضي السورية للمرة الأخيرة مُقتربة من الحدود التركية في رحلة علاجه من مرض الفشل الكلوي. «لم أرَ أرضاً رويت بالدم والشمس كأرض بلادي. ولم أرَ حزناً كحزن الناس فيها، ولكنها بلادي. لا أضحك من القلب، ولا أبكي من القلب، ولا أموت من القلب.. إلا فيها». كان يستعيد هذه الأبيات بصمت، بحزن، والعبرات تملأ صدره. يخشى من البكاء كي لا يراه ابنه الذي كان معه في السيارة لوداعه عند الحدود. بكى ابنه محمد كثيراً، توسّل إليه أن يأخذه معه، لكن لم يكن ثمة مجال. لم يحصل على موافقة لذهاب مرافق، ناهيك عن أنه لم تكن هناك إمكانية لذلك. قال لابنه ذي الرابعة عشرة بحنان: «بقاؤك هنا ضروري لأمك وإخوتك، فمن سيعمل ليقدم لهم ما يحتاجونه؟ نعتمد عليك وعلى أخيك التوأم أحمد كثيراً في المنزل». بكى ابنه كثيراً. كان متعلقاً به منذ صغره، يذهب معه أينما ذهب.

وصل إلى تركيا وكان شقيقه الأكبر بانتظاره. تعذّب كثيراً. الحياة في تركيا مكلفة بالنسبة إلى السوريين. المواصلات والدواء والطبابة متعبة ومكلفة وتحتاج إلى «كيملك» أولاً، والحصول على «كيملك» صعب في هذه الأيام ويحتاج وقتاً وصبراً. قال له صهره عبد الرزاق وصديقه حسن: «اذهب إلى تركيا وحاول أن تزرع كلية هناك. سنحاول أن نجمع لك تبرعات هنا ونرسلها لك مهما كان المبلغ كبيراً، عدا عن أنه في تركيا توجد منظمات وهيئات إنسانية لا بد أن تساعدك». ضحك من هذا الكلام وقال لهما: «أريد أن أبقى هنا لبقية عمري وأن أموت بين أهلي». قالوا له: «لن تخسر شيئاً. على الأقل ترى إخوتك الثلاثة وتُغيّر الجو الذي تتقوقع فيه. وإن لم تنجح في العلاج عد إلى سوريا. اعتبرها مناسبة لرؤية إخوتك وأصدقائك». كانت هذه الفكرة هي الوحيدة المُقنعة. يرغب بشدة في رؤية أخيه الأكبر، يحلم أن يجلس معه في الصباحات الجميلة ليشربا القهوة والمتّة سوياً مع عدة لفافات من التبغ ويتبادلا الأحاديث.

بعد أيام وصل إلى تركيا، وبعد أيام قليلة أخرى بدأ الشوق لأولاده وزوجته يحرقه. طلب من صهره أن يرسلهم إلى تركيا، وفعل. مضت عليه الآن حوالي خمسة أشهر هنا. يذهب أولاده الصغار إلى العمل، يتمزّق ألماً عليهم بعد أن كانوا متفوقين دراسياً في طفولتهم أصبحوا الآن يعملون من الصباح حتى المساء. يصلون مُرهقين، يتناولون طعامهم ثم يخلدون إلى النوم. حياة بائسة!! لقد فقدوا طفولتهم كحال معظم أطفال سوريا. في بلادهم تلاحقهم الطائرات والمدفعية والدبابات والقناصات، وفي بلاد التيه يلاحقهم أرباب العمل والخوف من الغد، يظهر رأس المال المتوحش في أبشع صوره.

يعيش الآن في منزله المتواضع مع مرضه وأفكاره الحزينة. كم يتمنى أن يكون في قريته! كم يحب أن يسمع أذان الفجر فيها! سمع الأذان كثيراً في تركيا لكنه لم يشعر ولا لمرة واحدة بتلك النكهة التي تعوّد عليها! الأذان في سوريا مختلف. يجلس الآن في غرفته وحيداً. كثيرون من أصدقاءه لم يتصلوا به حتى! هم متفرغون «للنضال» في تركيا وفي البلاد الأوروبية! لا وقت لديهم للسفاسف! الجميع ينتقد الجميع. والجميع يشكون الأوضاع الصعبة. معظمهم غادر سوريا بعد قيام الثورة بقليل، ثم يتكلمون الآن بسخرية عن رعاة الأغنام وباعة الخضار وعمال البناء لأنهم يقودون الثورة!

يعتقد الطغاة أنهم باقون إلى الأبد يحكمون «العبيد» المُسخّرين لخدمتهم، غير أن الشعوب تستكين إلى حين ثم تهزأ من طغاتها وتثور عليهم وترميهم في مزابل التاريخ. يمشي في الشوارع ويدندن بتلك الأغنية: «سوف يأتي كالربيع، سوف يأتي كالأغاني، حاملاً في كل جرح وردة مثل الأماني. سوف يأتي، خبرتني حلوة كانت هناك. سوف يأتي، خبرتني أغنيات العاشقين».