يصل مجموع الحوالات إلى سوريا من الخارج إلى عشرة ملايين دولار يومياً في فترة الأعياد حسب تقديرات، ومن كان له دور في طابور أحد مكاتب الحوالات المزدحمة يعتبر حظه وفيراً.

استلام الحوالة يعتبر مفتاح الوصول إلى سوق جنديرس الصغير نسبياً، أو إلى أسواق أطمة والدانا، وربما عفرين. واعتبرت آخر تقديرات أممية أن نصف الشعب السوري عاطل عن العمل، رغم أن البعض يجدها قد تجاوزت السبعين بالمئة، الأمر الذي دفع الكثير من العائلات إلى الاعتماد شبه الكلي على تلك الحوالات.

التظاهر بالصدمة الشديدة من الأسعار الخيالية ستكون سمة الجميع، لعلمهم المسبق أنها لن تكون في متناول أيديهم، ولابد من الانسحاب للحفاظ على ماء الوجه -بحجة عدم وجود طلبات الأطفال- باتجاه البسطات الشعبية وبضائعها ذات الجودة المتدنية جداً. مئات البسطات تنتشر على جانبي الطرقات أو في أسواق البازار، الأسواق التي تقام في يوم محدد أسبوعياً في بعض المناطق، وأصبحت الوجهة الرئيسية لأرباب الأسر لانخفاض أسعارها نسبياً، رغم أنها تعتبر مرتفعة قياساً إلى أوضاع الزبائن؛ أما جودة بضائع البسطات فليست مهمة طالما أن هناك القدرة على دفع ثمن بعضها.

أمام كل بسطة ألعاب لابد من أن تشحب الوجوه الصائمة لدموع الأطفال طلباً للألعاب: ترتجف شفاه الأب والأم في اختيار كلمات المواساة، يرتفع صوت الهمس بتدني مستوى الميزانية المتاحة، وطول لائحة المشتريات؛ لا بد أن يحمد الله شخص مثلي أطفاله ليسوا بعمر طلب الألعاب والإلحاح اللجوج عليها.

قد يكون مبلغ عشرين ألفاً كافياً لسد رمق الطفل الواحد، لكن ربما يوزعها الأهل على اثنين إذا كانوا يمتلكون القدرة على تحمل دموعهم وأناتهم، فالحوالة لن تتجاوز في أحسن حالاتها طلبات طفلين كما تقدّر لهما بسطات السوق، ليستطيع بعدها الطفل وضع ثياب العيد الجديدة تحت الوسادة، والنوم باكراً لاستعجال صبيحة العيد، والحلم "بخرجية العيد" والألعاب التي يمكن التمتع بها.

الحلم بتلك الطقوس كان ضاغطاً على محمد، رب الأسرة المهجرة من جنوب دمشق، لكن عجزه المطلق عن تقديم شيء لأطفاله بسبب إصابته التي أقعدته في أحد مخيمات عفرين بلا أي دخل مادي- لم يجعله ضمن طوابير الانتظار على أبواب مكاتب الحوالات في الأيام الأخيرة من رمضان. لم يكن أمام محمد -لعلمه بحساسية الأمر بالنسبة إلى الأطفال- إلا أن يطلب المساعدة من أحد الناشطين، على أن آلاف الأطفال لا يملك آباؤهم جرأة محمد على طلب المساعدة، ومن امتلكها قد لا يجد من يطلب منه المساعدة؛ بعض الآباء أسعفته العبارات ليقنع أطفاله بوضع لباس العيد الفائت أو الذي قبله تحت الوسادة، داخل تلك الرقاع المسماة بالخيام.

الزوجات هن الأقل حظاً والأكثر تفهماً وصبراً، فأي لباس مهما كان ضارباً في القدم ولا يزال فيه بعض الروح سيكون مناسباً، وكل ما على رب الأسرة سوى أن يطلق بعض الوعود بخصوص العيد القادم، لترد عليه الزوجة بابتسامة الرضا أو القبول الإجباري، وعليها أن تنسى ذلك الوعد ليكون لديها القدرة على تكرار الابتسامة في العيد القادم، عند تكرار الوعد مرة أخرى.

أما الآباء فلا اسم لهم على قائمة مشتريات العيد، مكتفين بفرحهم لقدرتهم على تأمين مستلزمات أطفالهم ولو جزئياً.

رغم كل ذلك هناك فسحة سعادة قد تمحو بعض حزن ما سبق، وهي أن يكون في المخيم منظمة ترعى احتفاليات العيد ومراجيحه، ما كان سيعتبر عبئاً مادياً جديداً على الآباء، وقد توزع المنظمة بعض الألعاب على الأطفال، أو تنظم بعض المسابقات للحصول على مبالغ نقدية رمزية، وتقيم نشاطات ترفيهية مختلفة، مع رسم بعض الزهور على وجوههم البريئة التي علتها السمرة من شدة شمس الصيف في الخيام التي تعجز عن ردها، كحالها مع برد الشتاء.

حلوى العيد رحلة أخرى مع المواجع. ستُقصد البسطات مجدداً، حيث لن يُسأل عن النوعيات وأصنافها، أو حتى جودتها، لأن المطلوب نصف كيلوغرام من صنفين أو ثلاثة، فالزوار لن يتذوقوا أكثر من حبة واحدة من إحداها، لأن أكثرهم قد عاش رحلة السوق ذاتها، ولم يتسنَ له أن يشم رائحة الحلوى تنتشر في المنزل، فأدوات صناعتها تُركتْ تحت أنقاض البيوت المدمرة، أو أنها عُفّشتْ من البيوت الخالية من أصحابها المهجرين قسراً إلى مخيمات الشمال.

ورائحة الحلوى ليست الغائب الوحيد، فقد رافقتها رائحة الريحان على القبور في الغياب من اثني عشر عيداً، وربما وصلت إلى سبعة عشر لدى البعض، كلٌ حسب تاريخ تهجيره.