في بداية الثورة السورية .. كنتُ أبحث عن مبرر بينما امتزج أبو عمر بروح الثورة

إدلب من مظاهرات ذكرى الثورة السورية الـ11 - خاص عين المدينة

كنوع من التغير الجذري المفاجئ والمفعم برومانسية الثورة، كنت شاهداً على  التحول التام لأبناء جيلي في النظر إلى السلطة الحاكمة في سوريا؛ من عائلة راقية مهذبة (كيوت) يتمشى ربّها الشاب مع الشعب بكل تواضع، يزرع الأشجار، ويفتح البلد على التكنولوجيا وعصر المعلوماتية.. إلى عائلة من الضباع التهمت ولا تزال موارد البلد، وكرامة الرجال والنساء. بدأ ذلك دون مقدمات، ومنذ اللحظة الأولى للهتاف ضد النظام في أولى المظاهرات. 

حمل "أبو عمر عديلة" وهو شاب حديث عهد بالزواج، قضية الثورة على عاتقيه. أهمل عروسه الجديدة. كان يمر إلى منزل العائلة الكبير الذي يضم والديه وإخوته الخمسة، وزوجته التي كانت يتيمة الأبوين، كأنه ضيف خفيف الظل.

يشارك في كل التظاهرات، يوزع المنشورات، يكتب عبارات الثورة على الجدران.. وحين أتى موعد حمل السلاح اشتغل على خط تهريب الكلاشينكوف والذخائر التي كانت تشترى من اللجان الشعبية. كان يتحدث عن الثورة كأنها طفله البكر.

يمقت النظام وخاصة بشار الأسد كأنه قاتل أبيه، عاطفي إلى أبعد الحدود. لم يكن مدركاً لكلمات من قبيل: ديمقراطية، ليبرالية، رجعية، اشتراكية، طلائع البعث، معسكرات الشبيبة… فالسياسة لا تهمه أصلاً، والثورة هي لوقف الانتهاكات ضد الدين والشعب. كان يفكر ك"قبضاي" متدين، إذ أقل كلمة ضد الثورة كانت كفيلة بإغضابه، وحينها يصبح أسداً هصوراً.

الثورة لا تزال في البدايات، غضة طرية كصبية نضرة متفتحة على الحياة؛ أنا الآن أمسك بمذكرات الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة مع كأس من الشاي، عشية ليلة ثورية حافلة قضيناها في الركض أمام الشبيحة المدججين بالعصي والقنابل المسيلة للدموع. كنت أحاول إدراك ماهية السياسة وكيف تكون الحياة من وجهة نظر المشتغلين بها.

يعلو صوت قناة الجزيرة على أغنية "الأرض بتتكلم عربي"، أصغي إلى الأغنية كأني أسمعها للمرة الأولى، حين يغني سيد مكاوي "الأرض بتتكلم عربي بوجد وشوق.. الفرع اللي يهز الضوء.. لأجل الجذر يشم الضوء"، أجهش بالبكاء.

تأخرت أسبوعين تقريباً عن اللحاق بأولى المظاهرات التي انطلقت في مدينتي داريا، لا لموقف سياسي محدد، إذ لم أكن مدركاً لماهية السياسة أصلاً. بلغت العشرين من العمر ولم أتابع نشرة أخبار على شاشة التلفاز، ولا قرأت مقالاً سياسيا في المجلات والجرائد التي كنت أطالعها بنهم. كان الشعر والنصوص الأدبية القصصية والمسرحية تستهويني منذ بلوغي العاشرة، إضافة إلى الكتب التراثية العربية التي كانت تغريني بمجلداتها الضخمة ذوات العدد.

في تلك المرحلة التهمت كل ما وجدته أمامي من كتب سياسية؛ مذكرات شخصية، سير زعماء، تواريخ، المجلات اللبنانية الأسبوعية كالمستقبل والصياد التي كانت مكتبتنا في المنزل تحوي أرشيفاً جيداً لمعظم إصداراتها خلال العقدين الماضيين، حتى الأفلام الوثائقية لم أوفر منها شيئاً…وهكذا انقلبت حياتي في غضون أشهر قليلة.

خرجت تقريباً في معظم المظاهرات، سافرت إلى درعا لأشهد الثورة في مهدها، وصارت علاقاتي، زياراتي، أحاديثي، وكل شيء تقريباً في حياتي اليومية، مرتبط بقضية واحدة هي الثورة السورية.

كان والدي -حينها-  يكرر على مسامعي بأن "السياسة أقبح مما أتخيل". فهي تحوي كل التناقضات، المواقف الانتهازية، اللعب على حبال مختلفة، بينما يعرفونها عادة بالعبارة الساذجة "فن الممكن".

سبقني أبو عمر إلى الثورة بأسبوعين شهد خلالهما أولى المظاهرات، وهكذا حاز أولى الفضائل بفطرته السليمة. بينما كنت أبحث عن "مبرر نظري" للمشاركة، أنا الطالب الجامعي في قسم الصحافة والإعلام.

 قبل شهرين أنا الآن أحضر احتفالية عيد المولد النبوي، بشار الأسد حاضر هنا. الجميع حمله على ذراعيه بمن فيهم صديقي أبو عمر متوثباً كأنه حصان عربي، كان أبو عمر يرفع الرجل -الذي كان لا يزال رئيساً-، على كتفيه. احمرت وجنتا بشار الأسد، فقد كان الجميع يعصرونه كأنه ليمونة حامضة.

مع أني تركت الحفل وآثرت الوقوف في ساحة الأموي متأملاً زخارفها النباتية ذات الطابع الأموي،  فوجئت بكف طرية تصافحني بحماس، كانت قبضة بشار الأسد الذي دخل برفقة البوطي وحسون وبعض الشخصيات التي لم أتعرف عليها إلى صالة الضيافة في المسجد. لا أدري كيف تسللت بينهم، ووقفت أنصت إلى هذا الرئيس الشاب الذي سيغدو بعد أسابيع عدوي اللدود، مثل كافة الثوار الذين شاركوا بالانتفاضة.

تشرين الثاني/السنة الثانية للثورة اشتعلت المدينة بالمعارك بعد أن شن النظام حملة عسكرية ضخمة باتجاهها. أنا الآن مقاتل على الجبهات، أرقب إحدى الدبابات بحذر بالغ، بينما تمسك يدي بجهاز تفجير القنابل عن بعد. يرن هاتفي النقال. يهاتفني أحد الأصدقاء من الجبهة المتاخمة. "قتل أبو عمر بينما كان يحاول تفجير عربة بي إم بي. أدت القذيفة لفصل رأسه عن جسده".

 في تلك الأيام كان وليد أبو عمر (أبو عمر الصغير) لم يتجاوز أشهره الثلاثة، أما والد أبو عمر فكان يتجهز لمصير مشابه بعد شهرين تماماً، بينما سقطت العائلة تباعاً واحداً إثر واحد على مدار عقد كامل من عمر الثورة السورية.

بالنسبة إليه امتزج أبو عمر بروح الثورة وقضى في وقت مبكر، قبل أن يشهد تحولات ما بعد الجيش الحر، وهكذا حاز على الفضيلة الثانية.

بالنسبة إلي أدركت أخيراً ما هي السياسة، بعد سنوات قضيتها متظاهراً ومقاتلاً وصحفياً، ثم مهجراً فنازحاً؛ إنها كما قال والدي "أحقر ما أفرزته المخيلة البشرية".