سلقين والنصرة وأنصارها من أبناء دير الزور

منذ خروج جبهة النصرة من دير الزور، مروراً بإجهازها على جبهة ثوار سوريا ثم حركة حزم في الشمال السوري، حتى طرد حركة أحرار الشام من سلقين، ثم اتساع الصراع وتعدد أوجهه معها، بعدها المنافس الوحيد للنصرة أو تحرير الشام في معقلها بمحافظة ادلب، انتهاء بما يجري من أحداث اليوم، كان للمسار الاجتماعي الذي أخذته كل تلك التحولات شكل آخر.

رغم عدم وجود مقرات للهيئة في مدينة سلقين، لكنها تشغل فيها مكتباً للخدمات ومكتباً دعوياً وسجناً ومخفر ومحكمة، إلى جانب هيمنتها على الدوائر العامة.  ويظهر في الشوارع الرئيسية عناصر تابعون لها، أو مقربون منهم، باللباس الباكستاني واللحى الطويلة، بينهم مهاجرون وملثمون، بأسلحة حربية متنوعة، راجلين أو بسيارات كبيرة، تنبئ كثرتهم بسيطرة على المجال العام، يبدي امتداد الهيئة الاجتماعي ارتياحه لها. بينما كان يظهر قبل معركة تموز الماضي انكفاء فصائل حركة أحرار الشام في سلقين، وانسحابهم من الحياة العامة، من توزع مقراتها في الحواري الجانبية والبساتين على الأطراف، وفي أحدها كان يسهر ناشطون بارزون من المدينة مع قياديين محليين في الحركة، أحدهم فهد النايف ذائع الصيت في أوساط الهيئة كأزعر، والحركة كشجاع ونخوجي وابن بلد، ويسهر في المقر كذلك أبو إبراهيم قائد الحركة في سلقين، مع مدرس فلسفة، ومصطفى المسؤول عن جمعية (المنال) وهي المنظمة الإغاثية المحلية الوحيدة وقتها خارج نفوذ الهيئة، وآخرون.

يتكلم الحضور عن رفض المنظمات العمل في المناطق التي تسيطر عليها الهيئة، مما حرم الأهالي من الاستفادة مما تقدمه، فوق ذلك اشتراط الهيئة على المنظمات التي تكسر تلك القاعدة تسليمها ٦٠% من دعمها، حيث (تريد الجبهة أن يعمل كل شيء في كنفها، والمشكلة أن القائمين على العمل لديها أقل مستوى من الناشطين) كذلك استسهالها القتل، وطرد الموظفين السابقين من الدوائر العامة، كالسجلات المدنية والبريد، وتوظيف أشخاص (لديهم شهادات ولكنهم مقاتلون) وأحدهم لا يعرف لأنه (غريب)

هناك قوائم طويلة من الاعتراضات والمطالبات التي خلفتها مراكمة ممارسات الهيئة، التي اصطدمت بالمألوف لدى أهالي سلقين، لكن بالطبع يأتي على رأسها مصادرة بساتين الزيتون واستثمارها، أو قطع العشرات منها، ووضع اليد على العقارات الخاصة بأناس تراهم محسوبين على النظام، وفرض رسوم على معاملات السجلات المدنية، وجبي فواتير الاتصالات الأرضية. وقد حاول ناشطو سلقين ووجهاؤها قطع الطريق على الهيئة، أو مشاركتها في الإدارة، بتشكيل المجلس المحلي أو مجلس الأعيان، لكن سرعان ما اعتقلت الهيئة أعضاء الأول، وذوى الثاني من قلة الفاعلية.

(ابن البلد) و(الغريب)

تحاول الهيئة فرض رؤيتها على المناطق التي تسيطر عليها دون إيلاء الطابع المحلي في الإدارة أي اعتبار، ما فتح باباً لعناصرها ومناصريها القادمين معها من دير الزور إلى جانب غيرهم، لأخذ مكان بيروقراطي الدولة، الذين ظلوا في سلقين يتلقون رواتبهم من دوائر النظام في حماة، كما أتاح الاستيلاء على مناطق حدودية لطيف الهيئة من الدير العمل في التهريب، وفي ظل انتظار خدمات معينة، أو استعمال التماهي بالسلطة لتيسير بعض الأعمال، يخرج ديريون كثر إلى المجال العام كمنتمين للهيئة، كما يعمل قسم منهم كعيون لها بدعوى الحفاظ على نظام ما، أو الالتزام بما يجب. وبحسب أبو يمان من دير الزور، وكان يعمل في جهاز الحسبة التابع للهيئة في سلقين، فإن هناك نظرة استعلاء لدى الديريين تجاه السلاقنة المسالمين أساساً، مفادها أن السلاقنة جبناء و(أننا نقدر لهم)، بينما يتحدث مصور حربي  سابق من دير الزور، لدى الهيئة، بأن الأخيرة استعملت الديريين لبسط سلطتها على سلقين.

يتكلم عاملون في «المكتب الإغاثي لأهل الشرقية» عن إحصائهم أكثر من ١٢٠٠ عائلة من دير الزور حتى شهر آب الماضي في سلقين، بينما يجعلهم ناشطون من المدينة أكثر من ٤٠٠٠ عائلة، يرى فيهم كثيرون منتمين إلى الهيئة بشكل أو بآخر، خاصة أن كثيراً منهم يلبس «الكلابية»، التي يعتقد البعض أنها خاصة بعناصر الجبهة، ومما صار معروفاً على نطاق واسع أن أهل سلقين يدعون جميع الديريين بالشعيطات، وهو ما عبروا عنه بأكثر من شكل، خاصة عندما خرجوا في مظاهرات ضد تواجد الهيئة هتفوا فيها (سلقين حرة حرة... شعيطي يطلع برا). حمل الخارجون في إحداها المصاحف، وفرقها عناصر الهيئة ومن يناصرونهم بالهجوم عليها وإطلاق النار، مما زاد الاحتقان الأهلي، ويصف أحد المقاتلين في أحرار الشام أن عناصر الهيئة (الذين لم يعد كثيرون يمايزونهم عن الديريين) ما إن يحتد نقاشك مع أحدهم قليلاً حتى يشهر في وجهك السلاح.

 ينظر عناصر الهيئة وأنصارهم من أبناء دير الزور المقيمين في سلقين، إلى أهلها على أنهم مؤيدون للنظام، أو حتى «شبيحة» الأمر الذي يقف وراء تسميتهم مدينة سلقين بالقرداحة، ولا ينكر أهاليها بأن من هاجم المظاهرات بدلاً عن النظام، وقاوم الحر عند ظهوره في مدينتهم، شبيحة من عائلة الجلخي السلقينية سلّحهم النظام، وأن ٣٥ منهم مازالوا يعيشون في المدينة، حتى الآن، من أصل ٥٥ أمسكت بهم الكتائب وقتها، وقدمتهم للمحاكمة في أرمناز القريبة من سلقين، حيث كان للحركة محكمة خاصة حكمت بقتل القناصين منهم فقط، كما يقول محدثونا في مقر الحركة بين البساتين، في تدليل منهم على تساهل الكتائب والأهالي على حد سواء، وغلبة العامل الاجتماعي بالتالي على أي عوامل أخرى.

عندما وقعت المعركة الأخيرة في تموز بين الهيئة والحركة، وسيطرت الأخيرة على المدينة لساعات، اتصل ديريون كثر مدنيون وعسكريون بعناصر الحركة يدعونهم للتروي، وعدم اعتبار أي ديري هو من الهيئة، وأخفى ديريون في الحركة أقاربهم من عناصر الهيئة، ثم حمى هؤلاء أولئك بعد خروج الحركة وبقائهم، بالمقابل وبعد سيطرة الحزب الإسلامي التركستاني التابع للهيئة على سلقين، اتهم البعض أهل محمبل من مبايعي الجبهة بكثرة، بإدخاله إلى المدينة، وطرد الحركة منها، وهجم مدنيون ديريون مع عناصر للهيئة على بيت فهد النايف ونهبوه، وكتب آخرون على منظمة مصطفى (أملاك الهيئة).

الاحتساب

 في شارع الكورنيش في سلقين يجد عناصر الهيئة وطيفها فسحتهم اليومية ليلاً، وقد كان الشارع يضم عناصر الحركة كذلك قبل أشهر، في ذلك الوقت كان عناصر الهيئة يعتبرون الحركة مصدر أي فعل خارج عما يعتبرونه قانوناً يجب الالتزام به، كـ لباس النساء وتدخين الأركيلة والاستماع للأغاني بصوت عال وركوب الدراجات النارية بسرعة كبيرة. مؤخراً قيدت الهيئة عناصرها شكلياً عن التدخل في شؤون الآخرين، ففي حزيران الفائت سرى حديث في أوساط ديرية في سلقين عن قرار أصدره قادة في الهيئة ينص على أن (الاحتساب ممنوع نهائياً) بأي شكل؛ ولكن بقاياه ما زالت ماثلة حتى الآن، وآثاره فعلت فعلها عبر جهاز الحسبة السابق مزيداً من الاحتقان الأهلي، الذي ترجم بأكثر من شكل. ويفيد المصور الحربي أن الديريين في الجبهة هم من رسّخ عمل الحسبة، التي لم يكن لديها عمل أو فاعلية قبل مجيئهم.

يفتخر مصطفى بأن أهالي إدلب كانوا يسمون سلقين «باريس الثانية» حسب قوله، بسبب أناقة النساء فيها وافتتاح سوقها لساعة متأخرة من الليل؛ يقول مدرس الفلسفة (إن الشيوعيين فيها أفراد بعكس ما يشاع عنها)، لكن يمكن اعتبار سلقين مدينة منفتحة في وسط محافظ، تتحجب النساء فيها عند سن ١٧ تقريباً، بحسب إحدى نساء المدينة، وتضيف أن ما يحاول فرضه عناصر الهيئة عليهن هو (نمطهم العشائري في اللباس) وأنهن غير معتادات على ذلك، فهن (محجبات لكنهن سبور). لكن ذلك لم يعد بإمكانهن بعد اتخاذ عناصر الجبهة، ثم الهيئة، في جهاز الحسبة خطوات كان أحدها إرسال الأطفال خلف النساء لرميهن بالبيض، أو دفع امرأة لضربهن بالخرطوم، أو إجبار مخالفتين على ضرب إحداهما الأخرى، أو حبس أولياء أمورهن وتغريمهم.. بحسب كثيرين من الدير وسلقين. وفي رمضان الفائت كسر رجال الحسبة الأراجيل ليلا في مقهى وسط المدينة، واعتدى محسوبون على الجبهة على يافعين يتجولون بدراجاتهم مسرعين. كل ذلك يضاف إلى الإعدامات العلنية عند الساعة، أو إدخال أرتال مضادات طيران إلى شوارع المدينة والتجول بها.

يقول أبو ابراهيم قائد أحرار الشام، وأحد محدثينا (قبل الاحتساب كانت الجوامع مكتظة، أما الآن فالجوامع فارغة) في اشارة على النتائج الدينية للاحتساب. يؤكد المصور الحربي أن هناك مدنيين من دير الزور يظهرون بزي الجبهة، ويمارسون الاحتساب منفردين. ويضرب مثلاً عنهم أبو مخلف، الذي يدخن الأركيلة في البيت، ويخرج بانتظام لممارسة الاحتساب قرب الساعة. (فأهل سلقين ما ينعطون وجه) ليختصر سبب ذلك.

يتدارك المصور أن الجبهة درجت منذ زمن على (تفريق الكتل العشائرية أو المناطقية، التي قدمت معها من دير الزور). لكن التغيرات الاجتماعية تبدو عربة دون كوابح، والخوف من الآخر يزداد، والآخر هنا قد لا يعدو ابن القرية المجاورة، والناشط مصطفى يتحدث عن عائلات سلقينية متخاصمة، وضعت مشاكلها جانباً لتقف بوجههم، «لأنا استقبلناهم ركبوا ودلدلوا».

بعد خروج أحرار الشام من سلقين ظلت الدراجات تتجول مسرعة، والاحتساب الصامت مازال موجوداً، و استأجر ديريون ذات مقهى وسط المدينة، ويتصرف فيها الزبائن كما يشاؤون، وتصدح منها الأغاني العراقية حتى وقت متأخر من الليل.