ديرالزور من الذاكرة.. الصعود الإسلامي في عقد السبعينيات (٢) من (٧)

مسجد عثمان بن عفان - شباط 2014 - عدسة شاب ديري

في سبعينات القرن الماضي شهدت سوريا صعوداً إسلاميا كبيراً، تمثل في مظاهر عديدة اجتماعية وثقافية زاد من أهميتها أنها انتشرت بين الشباب بصورة خاصة، في وقت كانت السلطة تعمل جاهدة لإحكام قبضتها على الدولة والمجتمع السوري. 

يرجع هذا الصعود إلى عوامل ثلاث أساسية، وهي:

 - الجهود التي بذلها العلماء والدعاة على مدى عقود، والتي أثمرت جيلاً كبيراً من العلماء ظهروا في تلك الفترة، وكانوا على درجة عالية من العلم والوعي، وعملوا بإخلاص وتفان لنشر الدعوة والانفتاح على الناس، وسخروا لذلك جهودهم وأوقاتهم، فحفلت بهم مساجد دمشق وكبرى المدن السورية، وملأوها بالدروس والمحاضرات في مختلف العلوم الإسلامية، وتمكنوا من دخول الأوساط الاجتماعية ومشاركة الناس أفراحهم وأتراحهم، والإسهام والتشجيع على أعمال البر ومساعدة الفقراء، فلاقت جهودهم هذه استجابة وترحيباً واسعاً، ودعماً كبيراً من التجار والمحسنين، كما أنهم أحدثوا تغييرات واسعة في السلوكيات الفردية والتقاليد الاجتماعية في جوانب كثيرة من الحياة اليومية.

- الإخوان المسلمون الذين نشطوا في تلك الفترة بعد خمول طويل لعوامل عدة، كالملاحقات والاعتقالات والخلافات الداخلية حول العمل الإسلامي وكيفية التعامل مع السلطة ومواجهة سياساتها. وهكذا، بعد انشقاق الجماعة عام 1970 عادت إلى نشاطها من جديد، وكثفت جهودها تجاه الشباب بشكل خاص، وحثهم على التوجه نحو العلم والتربية من خلال المساجد، وحضور دروس العلماء ومحاضراتهم، وكان هذا ضمن برنامج إعداد علمي وتربوي للشباب أطلق عليه "العمل المسجدي"، بدأ منذ أوائل السبعينيات.

- التحديات السياسية والثقافية والاجتماعية التي فرضتها سياسات السلطة على المجتمع السوري، ودفعت الكثيرين لمواجهتها بالوسائل العلمية والعملية. ويأتي التوجه نحو الإسلام في هذا الإطار.

يمكن القول بأن الصحوة الدينية بدأت فعلياً في تلك الفترة، وخاصة بين فئة الشباب من طلاب المدارس والجامعات، وهم يمثلون الجيل الثاني بعد الاستقلال (مواليد الخمسينيات وأوائل الستينيات). وأهمية ذلك تأتي من كون هذا الجيل حديث عهد بأجواء الاستقلال، وعلى صلة مباشرة بالجيل الذي عاصر تلك الفترة، وما زال يحتفظ بالكثير من الحماس والاندفاع تجاه قضايا الوطن والأمة، وقد أقبل شباب هذا الجيل بصورة كبيرة على التعليم والالتحاق بالجامعات (جامعة حلب وجامعة دمشق الوحيدتين في سوريا حتى أواسط السبعينات)، والكليات العسكرية. وكان هذا بالنسبة إلى أبناء المنطقة الشرقية فرصة كبيرة لتطوير أنفسهم والانفتاح على أنماط جديدة، وحياة مختلفة، في أكبر مدينتين في سوريا بشكل خاص، والتي كانت حافلة بالنشاطات السياسية والثقافية والاجتماعية والعلمية.

كان الحقل الإسلامي واحداً من أبرز تلك النشاطات، وهو بلا شك مختلف كثيراً عما كان عليه الحال في مدينة ديرالزور وقراها. ولهذا فقد كانت فرصة جيدة لأصحاب هذا التوجه للتعرف على مجالس العلم، والتواصل مع العلماء والمشايخ والخطباء البارعين الذين اشتهرت بهم العديد من مساجد دمشق وحلب، وكانت خطبهم تجتذب الآلاف، وخاصة من الشباب، بالإضافة إلى الاطلاع على أبواب جديدة من العلوم الإسلامية ليست متداولة في المحافظة إلا على نحو محدود. فضلاً عن وجود المكتبات ومعارض الكتب والحركة العلمية والثقافية النشيطة بالمحصلة.

وسط هذه الأجواء المفعمة بالحيوية والحماسة، كانت نشطت الجماعات الإسلامية بمشاربها المتنوعة: الصوفية والسلفية العلمية والحركية، وتنافست في اجتذاب الشباب والفتيات، وكان من أبرزها جماعة زيد الشهيرة في دمشق، والتي عُرفت ببراعتها في التنظيم والإدارة، ووجدت طريقها إلى قلوب الكثير. ومثلها جماعة أبي ذر في حلب، بالإضافة إلى جماعات صوفية عديدة من أبرزها جماعة الشيخ عبد القادر عيسى، أما جماعة الشيخ ناصر الدين الألباني السلفية فمن أكثر تلك الجماعات نشاطاً واستقطاباً للشباب. وبالنسبة إلى الإخوان المسلمين، فقد كانوا في مقدمة هذه الجماعات، ولعلها الأكثر تنظيماً وتخطيطاً، ويرجع إليها الفضل إلى حد كبير في تحفيز تلك الأجواء والحث عليها.

لا شك أن هذا الوضع أوقد الحماس في نفوس شباب ديرالزور الذين انتقلوا إلى دمشق وحلب للدراسة أو للخدمة العسكرية، ووجدوا فيه فرصة ذهبية لتنمية ثقافتهم الدينية، والتزود من العلوم الشرعية خاصة علوم القرآن. وبطبيعة الحال فقد انتقلت تلك التجربة تدريجياً إلى ديرالزور، وأصبح لعدد من تلك الجماعات فروع في المدينة والريف، لم تلبث أن تحولت خلال سنوات قليلة من السبعينات، إلى نهضة دينية علمية حقيقية اجتذبت المئات من جيل الشباب والفتيات غالبيتهم من أصحاب التخصصات الجامعية (أطباء ومهندسين وصيادلة واختصاصات أخرى)، وبعضهم كان من المشاهير في اختصاصه، وجلهم يحملون -إلى جانب تخصصاتهم- ثقافة إسلامية علمية عالية ليست تقليدية، وكثير منهم يحفظون القرآن الكريم ويجيدون تلاوته وعلومه، وهكذا وبعد أن كانت أعداد الحفاظ في ديرالزور لا تكاد تُذكر، أصبحنا في تلك الفترة أمام العشرات من هؤلاء، يؤمّون الناس في المساجد وفي صلاة التراويح في رمضان، وتلتف حولهم جماهير الناس في مشهد لم يكن معروفاً إلى وقت قريب. 

إلى جانب هذا كله، انتشرت مظاهر الالتزام الإسلامي على مستوى الصلاة والصيام وارتداء الحجاب والسمت الإسلامي بصورة عامة، وفي المناسبات الاجتماعية كالأفراح والمآتم والمناسبات العامة، التي سادت فيها تقاليد جديدة تراعي الالتزامات الدينية والمحظورات الشرعية، وبدأ الناس يتكلمون عن مسائل كحرمة الربا والخمر ومظاهر الفجور التي كانت -وعلى مدى عقود طويلة سبقت- منتشرة وتحظى بإقرار رسمي من السلطة.
ما كان لتلك الظاهرة أن تنمو على هذا النحو لولا توفر الرغبة والاندفاع الذاتي، والإخلاص والحماسة الدينية، إلى جانب الجهود التي بذلتها الجماعات الإسلامية لعقود سبقت.

كانت فترة ذهبية، وكان جيلاً ذهبياً بالنسبة إلى الإسلاميين بصورة خاصة، وبالنسبة إلى عامة الشباب الذين عاصروا تلك الفترة، ولا بد أنّ من تبقى من ذلك الجيل يذكرون الأعداد الكبيرة من أبناء المحافظة الذين كانت تعج بهم كليات جامعة دمشق في مختلف اختصاصاتها، (وجامعة حلب كذلك)، وهنا لا يقتصر الحديث على الإسلاميين وحدهم، ونستطيع الحديث هنا عن المئات وليس العشرات، ففي إحدى سنوات السبعينات كنا نحصي من قرية بقرص وحدها حوالي 45 طالباً في سنوات التخرج فقط. 

وهذا يقودنا للحديث عن الأجواء الأخوية والعلاقات الطيبة التي كانت تسود آنذاك؛ لا أحد يتحدث عن الانتماءات والمشارب، وكثيراً ما كانت بيوت الطلاب تشهد اللقاءات والتجمعات الأسبوعية للكثيرين بشكل عفوي، أو منظم أحياناً، حتى أن بعض البيوت اشتهرت على الألسنة بسبب موقعها وكثرة زوارها، مثل بيت يفتتحه شباب صوفيون في الميدان بدمشق يعرف ببيت الفقراء، كثيراً ما كنا نزوره ونلتقي فيه بأصدقائنا وأبناء بلدنا، يسكنه عدد من المقيمين بدمشق للدراسة أو الخدمة العسكرية، ويرتاده القادمون إليها بدل الفنادق، وفي البيت صندوق تشاركي للمساهمة في تكاليف الخدمات ونفقات الطعام وما إلى ذلك. وفي المدينة الجامعية بدمشق بجانب مستشفى المواساة، كان العشرات من الديريين يلتقون في ملعبها أو في غرفهم، حيث تنظم السهرات والحلقات والرحلات الجماعية على مدار العام.

وهكذا ونتيجة التجربة والاحتكاك فقد أصبح بالإمكان، إلى حد ما، أن نرى في ديرالزور مظاهر مشابهة لما كان عليه الحال في المدن الأخرى، نجدها في نشاط العديد من العلماء والدعاة، وازدياد دروس العلم وحلقاته أكثر فأكثر، وانتشار مجالس الشباب وتجمعاتهم في المساجد أو البيوت، وانتعاش أوضاع أكثر المساجد وكثرة أعداد المصلين فيها، مثل جامع الحميدي والعمري والراوي والسليمي والصناعة والجورة وغيرها، بعد أن كانت مقفرة إلا من بعض كبار السن، وبعيدة عن الاعتناء والنظافة والإعمار.

تضاعف عدد المساجد بشكل كبير واستعادت كثيراً من هيبتها ومكانتها، وأقبل الكثيرون على التبرع لإعمارها وتجهيزها، وإحياء المناسبات الدينية ومساعدة الفقراء والمحتاجين من خلالها، والإنفاق على الدورات العلمية وتحفيظ القرآن. وسرعان ما انتقلت هذه النشاطات إلى القرى والأرياف، ودبت الحماسة الدينية بين الناس، وسارع الكثيرون إلى الانخراط في النشاط الإسلامي بكل أنواعه، ولم تمض سنوات حتى أصبحت بعض القرى يشار إليها بالبنان لما تحفل به من نهضة إسلامية وشباب متفانين من أجلها.

 

 

*معاذ السراج: من مواليد ديرالزور 1954 مهتم بتاريخ سوريا المعاصر والحركات الإسلامية، عضو في جماعة الإخوان المسلمين منذ 1973، عضو سابق في مجلس شورى الجماعة ومكتبها السياس