تحذيرٌ إلى كل الطغاة: الربيع العربي ما يزال حياً

 خليل العناني عن موقع The Middle East Eye
17 كانون الأول
ترجمة مأمون حلبي


في حين يعتقد البعض أن انتفاضات 2010 – 2011 كانت إخفاقاً، تدلل شراسة الثورة المضادة على عكس ذلك.

قبل عقد من الزمن، أقدم شابٌ تونسي يدعى محمد البوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجاً على ظروفه الاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما أشعل سلسلة من الانتفاضات والثورات التي عُرفت فيما بعد باسم الربيع العربي وأدت إلى سقوط الدكتاتوريين العرب في كلٍ من تونس ومصر وليبيا واليمن.

وبينما يعتقد البعض أن الربيع العربي فشل في تحقيق أهدافه، لاسيما إقامة حكومات حرة وديمقراطية، إلا أنه تم الحصول على جملة مكاسب، من ضمنها الإطاحة برؤساء 4 أنظمة استبدادية قوية: بن علي في تونس، ومبارك في مصر، والقذافي في ليبيا، وعلي عبدالله صالح في اليمن. لقد بينت أحداث العقد الماضي أن تكاليف الاستبداد ورفض التغيير السياسي عالية جداً، لكن تلك الأنظمة التي تغلق دروب الإصلاح مستعدة لدفع ثمن باهظ لتبقى في السلطة.

رعاة الثورة المضادة

هذا ما هو عليه الحال في سوريا، التي دُمِرت نتيجة لرفض رئيسها الأسد الاستجابة لمطالب التغيير. لم يَعُد ثمة وجود في هذا البلد لدولة ذات سيادة يستطيع أن يحكمها، لأن سوريا قد أصبحت تحت حماية القوى الأجنبية، وعلى وجه الخصوص إيران وروسيا. بشكل مشابه، كانت تكاليف انقلاب الجنرال السيسي عام 2013 باهظة جداً. فقد أصبح السيسي معروفاً على المسرح الدولي بوصفه أسوأ دكتاتور في الشرق الأوسط. وهو أيضاً اصبح مضطراً للتضحية بوزن مصر الإقليمي لكي يُهدئ حلفاءه، بما فيهم الإمارات والسعودية وإسرائيل.

لقد أنفق رعاة الثورة المضادة، بالأخص الإمارات والسعودية، مبالغ ضخمة من المال من أجل إيقاف الربيع العربي، ولضمان أن الاحتجاجات لن تصل إليهم وتطيح بهم عن عروشهم، إنهم الآن متورطون في حرب أهلية في اليمن وليبيا، ويقومون بتمويل المرتزقة وأمراء الحرب كالجنرال خليفة حفتر. وقد وصلت سمعتهم الدولية إلى الحضيض وسط عمليات قتل الأطفال والمدنيين في اليمن.

إن شراسة الثورة المضادة بالذات قد تكون الدليل الأهم على نجاح الربيع العربي في تحقيق أهدافه، وتحقيق هدفه الرئيسي الذي كان رفع تكلفة الطغيان. وتحاول الإمارات ومصر والسعودية منع الانتفاضات والثورات من التكرار بأي ثمن كان. لقد أُفصِح عن أن المساعدات الاقتصادية المقدمة للسيسي من أبوظبي والرياض قد تجاوزت 60 مليار دولار، ناهيك عن صفقات الأسلحة الموقعة مع فرنسا وإيطاليا وروسيا والولايات المتحدة. وقُدّم الدعم السياسي للسيسي لتحسين صورته في واشنطن عن طريق مجموعات الضغط. وقد لعب يوسف العتيبة، سفير الإمارات في واشنطن، دوراً محورياً في تسويق انقلاب 2013 في مصر للإدارة الأميركية.

موجة أخرى من الانتفاضات

لقد كشفت تجربة الربيع العربي أنه برغم قوة أجهزة الأمن والاستخبارات -واستخدامها كل وسائل التعذيب والقتل وانتهاك حقوق الإنسان من أجل بث الرعب- فإن بنية الطغيان عرضة للتحطم. فمن كان يتخيل أن نظام مبارك الذي دام 30 عاماً سيسقط في فترة 18 يوماً؟ ومن كان يظن أن قذافي ليبيا سيتم العثور عليه مختبئاً في جحر بعد اندلاع الثورة ضده ببضعة شهور، أو أن علي صالح اليمن سيواجه نفس المصير، مقتولاً بطريقة بشعة بعد 3 عقود من حكم اليمن؟ ربما ما يثير السخرية هو أنه بالرغم من المحاولات المستمرة من قِبل قوى الثورة المضادة لإجهاض الربيع العربي، ما تزال الآمال بالديمقراطية حية. فوفقاً لمؤشر الرأي العربي 2019-2020 ، وهو أكبر استطلاع رأي سنوي يقوم به المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يعتقد قرابة 74% من العرب أن الديمقراطية هي نظام الحكم الأنسب لبلدانهم. بالإضافة إلى ذلك، شهدت المنطقة العربية موجة أخرى من الانتفاضات والثورات على مدار العامين الماضيين، شملت السودان والجزائر والعراق ولبنان، فقد نزلت الحشود إلى الشوارع مطالبة بالتغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

الرئيس السوداني السابق عمر البشير، الذي كان في السلطة لأكثر من 30 عاماً، تمت الإطاحة به، والرئيس الجزائري السابق عبدالعزيز بوتفليقة استقال بعد مظاهرات ضخمة، وهبَّ العراقيون واللبنانيون محتجين على الفساد والطائفية، ورافضين هيمنة القوى الخارجية على القرارات السياسية الداخلية. وفي مصر هَبَّت شرائح كثيرة في أواخر عام 2019 مطالبة بتحسين ظروفها الاقتصادية بالرغم من القمع الشديد الذي ينشره نظام السيسي.

الانقسامات السياسية والأيديولوجية

مع ذلك، يتوجب على أي تقييم موضوعي لتجربة الربيع العربي أن يأخذ بالحسبان الأخطاء التي ارتكبتها الحركات السياسية والثورية التي كان مُقدراً لها أن تقود المجتمعات العربية بعد سقوط الأنظمة الاستبدادية. فقد عانى هؤلاء الفاعلون من الانقسامات السياسية والأيديولوجية، بالأخص بين الإسلاميين والعلمانيين، وكانوا مشغولين بقضايا الهوية، كالعلاقة بين الدين والدولة. وغالباً ما أتت هذه الانقسامات على حساب قضايا أكثر إلحاحاً، كتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية، والتخلص من الفساد ومعالجة البطالة. هذا الاستقطاب بين هذه القوى لم يُعق إمكانية الانتقال الديمقراطي فقط، وإنما أدى أيضاً إلى عودة الأنظمة القديمة، كما حصل في مصر.

فشلت جماعة الإخوان المسلمين في مصر في الحكم بسبب افتقارها للتجربة في إدارة قضايا الدولة، ونتيجة لقوى النظام القديم التي كانت تتآمر ضدها. اتسعت هوة عدم الثقة، واختارت الحركات العلمانية التحالف مع العسكر للتخلص من جماعة الإخوان المسلمين. وما يزال هذا الانقسام الإسلامي- العلماني يلعب دوراً مهماً في إطالة أمد الأزمة السياسية في مصر بعد مرور 7 سنوات على الانقلاب.

سمح هذا الفشل للمؤسسة العسكرية بالاحتفاظ بتأثير كبير في قطاعات أساسية، وهذا ما ساهم بعودة هذه المؤسسة إلى السلطة، كما في مصر. وقد نجح العسكر في خداع القوى السياسية المعارضة، وكانوا شركاء أساسيين في إدارة عمليات الانتقال، كما في السودان.

بالتزامن مع الانقسام الإسلامي – العلماني، بقيت قوى نظام مبارك -خصوصاً جنرالات العسكر- على تواصل وتنسيق مع قوى الثورة المضادة الإقليمية في أبوظبي والرياض وتل أبيب، كما مع الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، بهدف الاستيلاء على السلطة من جديد بذريعة إعادة الاستقرار ومحاربة الإرهاب.

التوق للحرية

لقد مضت 10 سنوات منذ انطلاقة الربيع العربي، وبالرغم من محاولات إسكات الشعوب العربية، تستمر قطاعات كبيرة -خصوصاً الشباب- في توقها للحرية والكرامة والعدالة. وأوضح دليل على ذلك هو أنه في أي وقت يتوقف فيه القتال في سوريا، يَظهر المحتجون السلميون ليعبروا عن رفضهم للأسد وليطالبوا برحيله عن السلطة. وفي نفس المنحى، يوجد في مصر نقد متزايد للسيسي بشكل يومي، إن كان على شبكات التواصل أو عبر الاحتجاجات التي تحدث من وقت لآخر، بالرغم من القبضة الحديدية للسيسي. قبل عدة سنوات، ما كان لأحد أن يتجرأ على انتقاد السيسي سواء بالسر أو بالعلن، لكن وسائل التواصل تعُج الآن بإهانات واتهامات ضده وضد عائلته، وأولئك المقربين منه – اتهامات بالفساد وسوء استخدام السلطة من أجل مكاسب مالية له ولعائلته.

فقد أدخل السيسي الجيش المصري إلى كل المجالات الاقتصادية، وهذا ما أغضب شرائح كثيرة في المجتمع، خصوصاً رجال الأعمال الذين دعموه بقوة عندما أتى إلى السلطة بعد انقلاب 2013. ومع إغلاق السيسي كل منابر التعبير، ووسط استخدام الدولة المستمر للعنف والقمع ضد الخصوم، فمن المرجح أن ينفجر الوضع في وجهه عاجلاً أم آجلاً.

في نفس الوقت، الشيء اللافت بخصوص حكاية الربيع العربي هو الإفلاس السياسي والأخلاقي للغرب. ففي الوقت الذي تعطي الحكومات الغربية للآخرين دروساً في احترام الديمقراطية، حقق سلوك هذه الحكومات على مدار السنوات العشر الماضية عكس ذلك. لقد فشلت الحكومات الغربية في دعم عمليات الانتقال الديمقراطي في مصر وليبيا وتونس واليمن، وبدلاً عن ذلك دعمت الأنظمة الاستبدادية العربية التي كانت على عداء مع الربيع العربي.

تحقيق الحلم

تتواطأ الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية مع الأنظمة الاستبدادية في مصر والسعودية والإمارات والبحرين. والدليل الأهم على ذلك هو صمتهم المخزي على انقلاب السيسي عام 2013، إضافة إلى عدم إدانتهم انتهاكات حقوق الإنسان الفظيعة في البلاد. وتواطأت هذه الحكومات أيضاً مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي كان وراء عملية قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في تشرين الأول 2018 في القنصلية السعودية بمدينة اسطنبول. وهي أيضاً صامتة إزاء حملة الاعتقالات التي قام بها بن سلمان بحق عدد كبير من الصحفيين ورجال الأعمال ورجال الدين والناشطين السياسيين. واستمرت هذه الحكومات في الاستفادة من الحرب في اليمن التي نتجت عن الانتفاضة ضد المرشح المدعوم سعودياً ليحل محل علي عبدالله صالح.

لقد أعطت البلدان الغربية الأولوية لصفقات الأسلحة والاستثمارات على حساب حقوق الإنسان والديمقراطية في العالم العربي. وربما كان أحد أهم الدروس بالنسبة للشعوب العربية على مدار العقد المنصرم هو عدم الاعتماد على الدعم الخارجي في مواجهة الأنظمة الاستبدادية وإقامة الديمقراطية.

قد يبدو حصاد الربيع العربي ضئيلاً مقارنة بالتضحيات التي بُذلت في مصر وليبيا وسوريا واليمن. لكن الحقيقة التي لا يمكن الإفلات منها هي أن الربيع العربي قد أصبح مرجعية بالنسبة إلى الشباب العرب الذين يحلمون بالحرية والكرامة والعدالة والذين لن يتوقفوا حتى يحققوا ذلك الحلم.

مظاهرات السودان 2019 - AFP