تزداد وتيرة الانشقاق عن تنظيم الدولة الإسلامية مع تراكم هزائمه. ويتكاثر هؤلاء المنشقون في الشمال السوري، وجهتهم المؤقتة أو الدائمة. الأمر الذي دفع هيئة تحرير الشام (الجهة الأكثر حزماً) إلى تقنين التعامل معهم، كما دفع التنظيم إلى تشكيل جهاز «الشرطة العسكرية»، منذ أكثر من سنة ونصف، للتعامل مع هذا الملف الضاغط.

تحركت التجمعات الأهلية والناشطون والإعلاميون والفصائل، كل على حدة، للتعامل مع المنشقين عن التنظيم، أو الفارين من المعارك التي يخوضها قادتهم حتى النهاية، لكن أحداً من أولئك لم يطرح ما يمكن أن يكون أساسا لمقاضاة عادلة للعناصر، فذهب البعض في القسوة حتى نهايتها، بينما تساهل البعض حد التمييع، وبينهما عدم اكتراث دون النظر إلى ما قد يشكله هؤلاء من خطر لاحق، كأناس يمكن أن يعاودوا الانضمام إلى تنظيمات مشابهة، أو أن يكونوا «ذئاباً منفردة» محتملين، ربما قد «انشقوا» بإيعاز من قادة في التنظيم.

المنشقون بين الإعلام والفصائل

حرك تقرير نشرته مجلة دير شبيغل الألمانية مواقف هزيلة من أطراف متعددة دولية وإقليمية. احتوى التقرير، الذي صدر منذ شهرين، معلومات وصوراً لانتهاكات ضد مدنيين في معركة الموصل. وقبل ذلك بسبعة أشهر أطلق ناشطون إعلاميون من دير الزور حملة أطلقوا عليها اسم «مدنيون ليسوا دواعش» لتسليط الضوء على انتهاكات واعتقالات مارستها فصائل في الشمال السوري بحق مدنيين من دير الزور، لشكها في أنهم عناصر في التنظيم. الملاحظ في الأمر أن المحاولتين سلطتا الضوء على المدنيين الذين مورست في حقهم الانتهاكات، لكنهما أهملتا الانتهاكات في حد ذاتها. بمعنى أنه يكفي أن تُكَفّ في حق المدنيين، ولا بأس أن تمارس ضد عناصر التنظيم المنشقين أو الفارين أو الأسرى.

يذكر موقوف سابق في اعزاز، لدى فصيل احتجزه بعد خروجه من مناطق سيطرة التنظيم، أنه رأى العديد من المبايعين من منطقته يمرون عبر حواجز الفصائل دون مساءلة، بينما اعتقل هو لأنه طالب بمبلغ مالي فقده أثناء التفتيش، الأمر الذي يحدث كثيراً كما تفيد روايات عدة. ويضيف أن العنصر الذي فتشه جن جنونه عندما طالب بالمبلغ، وفتح النار من بندقيته فوق رأسه تماماً، واحتجزه، وعذبه، إلى أن اعتذر أمام جمع من المنتظرين على الحاجز.

اليوم أصبح محدثنا مقاتلاً في أحد فصائل الشمال، وهو يُرجع سبب مرور مبايعي داعش من الحواجز سالمين إلى الإهمال والتسيب، التحليل الذي يرفضه آخرون، إذ يرون أن ذلك يتم عن طريق دفع العناصر مبالغ كبيرة للحواجز.

العشائرية... إلى حلب وإدلب

ويشير المعتقل السابق إلى أن ابن عمه، المنشق عن داعش منذ ثمانية أشهر، لم يعترض طريقه أحد حتى الآن «لأننا كثيرون هنا»، لكن ذلك لم يحل دون أن يخبروا، عن طريق الأقارب كذلك، قيادات في هيئة تحرير الشام عن الشاب قبل أن يصل إلى الشمال. وينسحب الأمر على منشقين كثر يحظون بحماية أقاربهم من العشيرة، دون أن يكونوا بالضرورة قد أخطروا أحداً بأمر الانشقاق مسبقاً. على أن العشيرة لا تتدخل دائماً، فبحسب الشاب المنشق فإنه «إذا كان الداعشي من فخذ قوي ما حدا يجيب سيرته»، وبالمقابل هناك «ناس من قريتي اعتقلت لأنهم دراويش، وبعضهم أبواق لداعش، حتى مو دواعش». ويروي منشقون حكايا مختلقة عن حياتهم في ظل التنظيم، ومضايقات أو اعتقالات طالتهم من قبله لإبعاد الشبهات عنهم.

تعمل في الشمال السوري، منذ سيطرة التنظيم على دير الزور، العديد من الفصائل التي تضم أبناء المحافظة. وتتصف تلك الفصائل باللون العشائري الواحد لعناصرها بنسبة كبيرة، رغم وجود استثناءات. وأكثر من ذلك فإن مقربين من هيئة تحرير الشام يفيدون أن المجموعات التي كانت تنتسب في دير الزور إلى جبهة النصرة سابقاً ما زالت تحافظ على نفسها في الهيئة بالتركيبة العشائرية السابقة نفسها. وتعيش في الشمال، إلى جانب الفصائل، مجموعات عشائرية دون عمل واضح، لكنها ما زالت تمتلك السلاح وتقدم الحماية للمنشقين من الأقارب. بينما يلجأ منشقون من أبناء مدينة دير الزور إلى الأصدقاء والمعارف، خاصة في جبهة النصرة سابقاً. لكن ذلك لم يحل دون مطالبة أبناء عشائر بقتل أقارب منشقين، لأن «في رقبتهم دماء»، وربما يتعلق الأمر باستباق ثارات مستقبلية.

المنشقون أمام قضاة هيئة تحرير الشام

تتردد في أوساط مقربين من جبهة النصرة (سابقاً) أن شخصاً عرض، منذ مدة قصيرة، على الجولاني استقبال تونسي، مع مجموعة كبيرة في التنظيم، ترغب في الانشقاق والانضمام إلى الهيئة، فرد الجولاني: «أخبروه ألا يهرب من الحرب في الموصل ومقاتلات البي كي كي، فعندما قاتلوا [عناصر التنظيم] المسلمين أصبحوا أسوداً»! من غير الممكن التثبت من صحة هذه الحكاية التي تحمل آثار الندبة التي تركتها الحرب بين التنظيم والجبهة، لكن عوامل كثيرة تؤثر في طريقة تعامل أجهزة هيئة تحرير الشام مع المنشقين.

تعتقل الهيئة كل من تصل إليه أيدي أمنييها من الدواعش المنشقين، ويقدم بعد أيام لقضاة الهيئة الذين يحاولون، منذ مدة، تسريع البت في قضايا المنشقين. وبحسب ما يلاحظ متابعون ومقربون من الهيئة، تختلف الأحكام تبعاً لعدة أمور؛ فحين يكون المنشق غير منتم إلى الجهاز الأمني للتنظيم، ولم يقاتل الفصائل، وقد «نسّق مع أحد»، بمعنى أخطر أحد المنتمين إلى فصيل عسكري أو المقربين منه، يطلق سراحه فوراً، لأنه يعدّ تائباً ويحال إلى دورة شرعية. أما إذا لم ينسق مع أحد فيسجن (تعزيراً) شهراً أو شهرين، ترسل صورته أثناءها، مع معلومات عنه، إلى جميع المعارف من أهالي المحافظة، ويتداولها هؤلاء في غرف برامج التواصل الاجتماعي الخاصة، للبحث عن شاهدين يدليان بمعلومات تثبت مشاركته في القتل أو العمل في الجهاز الأمني، وعند ذلك تكون العقوبة الإعدام، أما إذا لم يتوافر الشاهدان فيطلق سراحه. على أن الأمر يختلف من قاض إلى آخر، فكما يلاحظ البعض قد يفرج قضاة من إدلب عن المنشق في اليوم نفسه، دون بحث أو عقوبة، «لأن منهم من لا يعدّ داعش خوارج»، أما إذا كان القاضي ديرياً فإن «المنشق يتبهدل» كما يقول المعتقل السابق.

الشرطة العسكرية لتنظيم الدولة

«عند وجودي في السجن حاول الشرعي إقناعنا بالعدول عن ترك الدولة، لكني كنت مصراً. عندها جاء أمير الشرطة العسكرية في ولاية الفرات، أسد الله الحلبي، وقال لي: «لن ندعك تترك، سنرسلك إلى الموصل بمعسكر ستة أشهر، وإذا هربت نطفيك. التبطيل لا يجوز، لأنكم تعرفون أسرار الدولة». خفت على حالي، وقلت لهم: أريد أرجع». هكذا يتذكر الشاب المنشق عن التنظيم كيف نجح قادة الأخير في الضغط عليه للعدول. من غير المعروف إن كان «الأمير» جاداً في تهديده أم لا، فهناك العديد من العناصر التي أصرت على «خلع البيعة» وأجابها التنظيم إلى رغبتها، مع إقامة جبرية لستة أشهر في قاطع يختاره «القاضي». على أن كلام «الأمير» يفيد أنه كان يبحث عن مبرر غير «خلع البيعة» لقتل الشاب الذي كان حريصاً أشد الحرص، خلال فترة سجنه ومحاكماته، أن لا يتكلم أمام زملائه عن أخطاء التنظيم أو خسائره أو هروب قادة منه مع مجموعاتهم للانضمام إلى الحشد الشعبي، الأمر الذي عاينه أثناء قتاله في العراق قبل أن يقرر أن يترك التنظيم. فبحسب الشاب، يعدّ الكلام عن ذلك «تخذيلاً»، وهي تهمة قتل التنظيم بسببها «للمصلحة» جماعات أعلن رسميا أنهم خوارج، وقد تولت محاكمتهم الشرطة العسكرية.

رغم القضايا الخطيرة الموكلة بها فإن عناصر الشرطة العسكرية (وقاضيها) معروفون للجميع، بحسب الشاب، لا يتلثمون، وقد تجمعهم مع المعتقلين علاقات الصداقة، فيبررون موقفهم بأنهم «عبيد مأمورون». على أن مهامهم تقتصر على نقل السجناء وتقديمهم للقاضي، وتجهيز إضبارتين لكل سجين، واحدة تحوي المعلومات الحقيقية الخاصة به، والثانية المعلومات المتعلقة به كعنصر في التنظيم، من اسمه الحركي إلى اسم قائده ومجموعته... أما تنفيذ أحكام الإعدام فيتولاها الجهاز الأمني.

تتبع الشرطة العسكرية للإدارة العسكرية، وتتولى، إلى جانب ما سبق، مخالفات المقاتلين، كإطلاق الرصاص بين المدنيين، وعقوبته المعتادة الجلد بعدد الرصاصات نفسه في ذات المكان والتغريم بسعرها، والتأخر عن الالتحاق بعد انتهاء الإجازة، وعقوبته تأخير الإجازة بعدد الأيام التي تأخرها.

من إصدارات داعش في ديرالزور