هل يقترب تنظيم الدولة من نهايته؟

تكتسب استعادة قرية دابق في ريف حلب الشماليّ من تنظيم الدولة قيمةً معنويةً كبيرة، لما لها من أهميةٍ رمزيةٍ لدى التيار الجهاديّ الإسلاميّ.

تبعد هذه القرية الصغيرة حوالي خمسة وثلاثين كم إلى الشمال الشرقيّ من مدينة حلب، ولا يفصلها سوى خمسة عشر كم عن الحدود التركية. يعرفها جميع من درس حتى المرحلة الابتدائية بسبب الموقعة الشهيرة التي جرت قربها عام 1516، بين العثمانيين بقيادة السلطان سليم والمماليك بقيادة قانصوة الغوري، والتي كانت مقدمةً لفتح بلاد الشام ومن بعدها بعامٍ واحدٍ مصر، عندما أنهت الإمبراطورية العثمانية الناشئة سيطرة المماليك على هذه المناطق. فدابق، بالنسبة إلى عالم اليوم، مهمةٌ للأتراك برمزيتها التي تعود إلى خمسمئة عامٍ كبوابةٍ لسورية، أما بالنسبة إلى تنظيم الدولة (داعش) فلم تكن الوجهة منها -عند سيطرته عليها منذ عامين- نحو الشمال (الروم)، وإنما نحو الجنوب (الداخل)، مثلما اليوم لحظة تخليه عنها، على عكس معتقداته بأنها ستكون أرض المعركة الكبرى مع الروم ومن بعدها لفتح القسطنطينية.

وأتت عمليات استعادة المدن والبلدات من داعش في كلٍّ من سورية والعراق في وقتٍ متقارب. فمعركة الموصل انطلقت بعدها بشهرٍ تقريباً، باشتراك قوّاتٍ عراقيةٍ، غالبيتها من الميليشيات الشيعية بما فيها الجيش النظاميّ، إلى جانب قوات البيشمركة الكردية، وبمساندةٍ كثيفةٍ من القوات الجوية للتحالف الدوليّ. بينما اقتصر الأمر في سورية على قوات البيدا الكردية أولاً، تدعمها قوات التحالف وتحديداً الأميركية، ومن بعدها فصائل الجيش الحرّ تدعمها القوات التركية. وفعلياً استطاعت قوات الجيش الحرّ، حتى تاريخه، تحرير حوالي 1500 كم مربعٍ من سيطرة داعش التي تخسر بعضاً من مواقعها في العراق. والسؤال المهم هو هل ستكون هذه الانتصارات العسكرية بداية النهاية لـ«دولة الخلافة» أم ستكون بدايةً لمشاكل كبرى ليس أقلها الحرب الطائفية وتفتيت البلاد إلى وحداتٍ صغيرةٍ متناحرةٍ ومتقاتلة؟

قبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال لا بد من التفكير في أسباب نشوء وتطور هذا التنظيم وانتشاره على أراضي الدولتين وإزالته الحدود المكرّسة بينهما منذ بدايات القرن العشرين (لحظة هزيمة دولة الخلافة العثمانية وبدء الاحتلال الأوروبي للمنطقة).

من المعروف أن البلدين، سورية والعراق، يحكمهما نظامان طائفيان. فسورية تخضع، منذ أكثر من خمسين عاماً، لحكمٍ طائفيٍّ تمييزيٍّ تجاه الغالبية السنّية وقسريٍّ تجاه المجتمع. وكذلك كانت الحكومات العراقية المتتالية التي تشكلت بعد الاحتلال الأميركي طائفية التوجه وخاضعةً للنفوذ الإيرانيّ القوميّ والمذهبيّ، تمارس سياسةً قمعيةً استثنائيةً تجاه السنّة الذين يشكلون حوالي نصف السكان أو أقلّ، تعرّضوا للظلم والاضطهاد والتهميش والاعتقال، ووصل حرمانهم من غالبية حقوقهم إلى درجة الإقصاء. فشكلت هذه السياسة الحافز القويّ وأحد الأسباب الرئيسية في نشوء واستمرار تنظيم الدولة كردٍّ «طبيعيٍّ» وعنيفٍ من طرف الجماعة السنّية على تلك الممارسات. وكان استيلاء التنظيم على الموصل شاهداً مهماً على ذلك، حين اختار الناس في هذه المدينة ذات الغالبية السنّية الانحياز لداعش -رغم المخاطر- كوسيلةٍ للخلاص من ظلم حكومة نوري المالكي وميليشياته.

وكذلك الأمر في سورية، بعد القصف البربريّ الروسيّ وممارسات الميليشيات الطائفية الشيعية تحت قيادةٍ مباشرةٍ من الحرس الثوريّ وتوجيهٍ ورعايةٍ من الوليّ الفقيه، تلك الممارسات التي لم توفر وسيلةً لتدمير السوريين الذين خرجوا على طاعة الأسد وطالبوا بحقوقهم. فعبر السنوات الخمس الماضية كان مئات الألوف من القتلى، وملايين المهجرين والنازحين، وتدمير حوالي نصف البنية التحتية؛ كان كلّ ذلك متركّزاً في المناطق ذات الأغلبية السنّية.

قتال داعش هو أحد الأهداف الرئيسية للثائرين السوريين، لكن أن يُجبَروا على التشارك في ذلك مع قوّات النظام والميليشيات الطائفية التي يعدّونها المصدر الرئيسيّ لكل أشكال الإرهاب، وهم محقون؛ لن يساهم في الحدّ من التطرّف.

قد تتمكن المساومات الدولية والتحالفات الناشئة عنها من إلحاق الهزيمة بـ«دولة الخلافة»، كلها أو جزءٍ منها، وعلى مراحل. لكن ما لم يجرِ التفكير أولاً في الأسباب التي أدت إلى ظهورها وتوسعها، ثم العمل على معالجة هذه الأسباب، والعمل صراحةً على إزالة أنظمة الاستبداد، وتمكين السكان كلهم من صنع مصيرهم الذي يضمن حقوقهم في المشاركة في إدارة البلاد ومحاسبة الذين تسبّبوا في عمليات الظلم والقتل؛ فستكون هزيمة داعش مؤقتة، وإن هُزمت ستعود من جديدٍ بأشكالٍ أخرى، فهي متلازمة الاستبداد المحليّ وداعميه الدوليين.