هل الرقة عاصمة الخلافة؟

يروج في أوساطٍ إعلاميةٍ واسعةٍ أن الرقة عاصمة خلافة تنظيم داعش، ويدعم هذا التوجّه حتى إعلاميوها المعارضون له الذين يمنحونها ثقلاً وفاعليةً على مستوى التنظيم. حتى لم يعد طرح السؤال حول صحة هذه المعلومة أمراً مطروقاً، رغم أن الرقة كانت مثالاً ضربه العدناني (الناطق الرسميّ باسم «الدولة الإسلامية») عن الأراضي التي من المحتمل ان تنسحب منها داعش في حربها الطويلة، كما تراها. فهل هي حقاً عاصمة الخلافة؟

اتسمت مدينة الرقة بالهدوء النسبيّ طوال المرحلة السلمية للثورة السورية، فلم تكن لها مشاركةٌ فاعلةٌ فيها كما حصل في مدنٍ أخرى. وعندما انتقلت الثورة إلى المرحلة المسلحة في 2012 كانت الرقة لا تزال تحت سيطرة النظام، ما جعلها مكاناً وفد إليه النازحون من محافظاتٍ عدّةٍ، أبرزها دير الزور وحلب، هرباً من شبح الموت. حينها كان النظام مطمئناً للرقة وأهلها «المسالمين» فلم يركّز ثقلاً عسكرياً فيها، ما جعل خروجها عن سيطرته مطلع آذار 2013 (على يد أحرار الشام وجبهة النصرة بشكلٍ رئيسيّ) أمراً سهلاً، إذ استغرقت المعارك ساعاتٍ قليلةً في وقتٍ لم يستطع فيه آلاف المقاتلين السيطرة إلا على بضعة أحياء في مراكز مدنٍ أخرى.

سيطرت حركة أحرار الشام على المدينة، وحاولت القيام بوظائف الدولة، فأدارت شؤون النظافة وبعض الأفران والمحكمة، أما دائرة الأحوال المدنية والمدارس والجامعة والكهرباء والمياه فقد استمرّت في تسيير أعمالها على يد الموظفين الحكوميين أنفسهم. ولولا مظاهر الدمار البسيطة جرّاء القصف الذي كانت تتعرّض له من حينٍ لآخر لانتاب زائر الرقة شعور أن المدينة لا تعيش حرباً، وظلت مكاناً يزخر بالنازحين.

وجدت جماعة البغدادي في أجواء المدينة الهادئة، وفي أهلها الذين لم تستقطبهم الثورة وفصائلها بشكلٍ كبير، مناخاً ملائماً لترتيب أمورها. فكانت الرقة من أوائل الأماكن السورية التي وطأتها، فخبرت أهلها وناشطيها، وظلت ترتب أمورها بصمتٍ لم تقطعه سوى اغتيالات بعض الناشطين وخطف آخرين، حتى مطلع 2014 حين قامت داعش بتصفية الأحرار والنصرة في الرقة، إثر طرد الثوّار لها في حلب وإدلب. وكما تحرير الرقة من نظام الأسد كانت سيطرة التنظيم عليها سهلة، فلم تستغرق الاشتباكات سوى ستة أيامٍ تسلم التنظيم بعدها المدينة دون أن يكون قد لحق ببنيتها التحتية وكوادر الإدارة فيها أذىّ يذكر. فظلت المياه والكهرباء والمشافي والهاتف متوافرة، عكس بقية المناطق المحرّرة التي سيطر عليها التنظيم لاحقاً، وهذا ما ساعده على التفّرغ لابتذال أعمالٍ تلقاها الكثير من المفتونين بدهشة، كـ«مكتب الحدائق»!

بُعيد إعلانه الخلافة، في منتصف 2014، أنهى التنظيم حربه ضد الفصائل العسكرية في دير الزور بسيطرته على المحافظة، بعد معارك استمرّت لأكثر من ستة أشهرٍ لم يطمئن بعدها لأهالي المنطقة الذين ظلوا في نظره مشاريع «صحوات»، بخلاف الوضع في الرقة التي صارت مثالاً يُظهر التنظيم بالصورة التي يريد ترويجها عن نفسه لأنصاره وخصومه على السواء، كدولةٍ قادرةٍ على تسيير شؤون الحياة وضبط الأمن وإقامة الشريعة، الأمر الذي يظهر جلياً في إصداراته عن الحياة العامة، من أسواقٍ وشرطة مرورٍ ومشاغل في المدينة التي استعملها الجهادي جون كاستوديو لتصوير إعدامات الرهائن.

لأن الرقة صارت قبلة عناصر التنظيم، ولا سيما المهاجرين الذين «تركوا دنياهم وجاؤوا يبذلون أرواحهم في سبيل الإسلام ودولته»، منتجعاً لهم يقضون استراحاتهم في مطاعمها وأسواقها ويتزوجون فيها ويسلبون بيوتها ليسكنوها مع عوائلهم؛ وبسبب نشاط حملة «الرقة تذبح بصمت» الذي أعطى المدينة زخماً في وسائل الإعلام المحلية والعالمية؛ إضافةً إلى الهالة التي صنعها ناشطون لأبي لقمان (والي الرقة السابق في التنظيم) حين جعلوه والي الشام (سوريا) علماً أنه لا توجد «ولاية» بهذا الاسم؛ ولأحاديث أهالي المناطق الأخرى عن ممارسات التنظيم الوحشية في حقهم مقابل عدم تضييقه على أهالي الرقة بنفس الدرجة؛ وأخيراً لاتخاذها مكاناً لإعدام الرهائن الذين خطفهم في مناطق أخرى من سورية... لهذه الأسباب مجتمعةً اعتقد الكثيرون أن الرقة عاصمة الخلافة، رغم أن التنظيم العراقيّ لم يصدر عنه اتخاذه عاصمة، بل إنه لم يحشد مقاتليه للدفاع عن المدينة حين هددت «قوات سوريا الديمقراطية» بالهجوم عليها، كما فعل بجبهات العراق المختلفة.