موت حافظ الأسد في دير الزور.. وداعاً يا حزن

انقسمت دير الزور في اليوم الحزيراني القائظ الذي مات فيه حافظ الأسد إلى مدينتين، إحداهما عجت بمظاهر سلطوية في المجال العام من أشكالها اجتماع البعثيين في مقر الحزب وأمامه، واستنفار عناصر المخابرات وفرض الموات على الشوارع بإغلاق المحلات وإشاعة ما يشبه حظر التجوال، والثانية تغالب الفرح المكتوم بموت الطاغية في الوقت الذي لزمت فيه البيوت، بعد أن غسلت نسوتها أرضياتها استعداداُ لقيلولة طويلة تحت هواء مكيفات الماء والمراوح بانتظار ما ستؤول إليه الأمور أو نقل المستجدات الخاصة بالمزاج الشعبي أو التعليق على ما حدث.

في المدينة الأولى شاهد العديد من أبناء دير الزور الطالبات المنحدرات من الساحل متشحات بالسواد ويحملن رايات سوداء، حين خرجن بمسيرة صغيرة انتظمت أمام السكن الجامعي الكائن في نهاية شارع سينما فؤاد ثم سارت بذات الشارع حتى وصلت إلى دوار التموين فمبنى البريد القديم قريباً منه، قبل أن يعدن إلى السكن الجامعي للملمة أغراضهن والرجوع إلى مدنهن وقراهن الأصلية.

بينما طلبت مديرية الأوقاف بتوجيه من الأمن تشغيل القرآن والأذكار الدينية في المساجد طيلة فترة العزاء، التي نشطت فيها زيارة شخصيات دينية مثل مفتي دير الزور ومدير أوقافها وبعض الشيوخ إلى أمين فرع الحزب والمحافظ ومراكز الدولة للتعزية بموت حافظ الأسد، وفق الباحث بالفكر الإسلامي والسياسي من دير الزور يوسف الحمّود، الذي ذكّر أن خطب الجمع اللاحقة "صارت عن إنجازاته وتذكير المجتمع بها كجزء من النشاط المخابراتي الذي فرض على الأوقاف التي هي بالنهاية مؤسسة سلطة". واستدرك الحمّود الذي يعيش في تركيا أن "الشكل الأعلى للموالاة هو زيارة قبره من قبل الكثير من مدراء الدوائر الحكومية وشخصيات سلطوية ودينية بعضها ذهب سراً خوفاً من (كلام) المجتمع".

أحد الموظفين السابقين من دير الزور قال أن زيارات الأصدقاء والأقرباء والجلسات الأكثر ثقة كثرت بعد اليوم الأول من إعلان الوفاة، وعزاها إلى محاولة الناس "كسر حاجز الصمت والتزود بدفعة أمل"، لكنه عاد ونوّه إلى أن "حزناً مفتعلاً مبالغاً فيه سيطر على الجو العام بسبب سيطرة الخوف من كل شي حتى من إدارة زر الراديو، وفضلت الناس السكوت في الدوائر الحكومية لانعدام الثقة، لكن في الجلسات الخاصة الضيقة يسيطر على الناس مشاعر الفرح والأمل بتغيير الأوضاع للأحسن".

وتابع الموظف المتقاعد الذي طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية "الناس كانوا ثلاثة أصناف: منافقون بالحزن المفتعل، وأشخاص بدت عليهم مشاعر الحزن الحقيقي وهم قلة، وصامتون لم يبد عليهم أي تفاعل وهم يخشون إظهار مشاعر الفرح وهم القسم الأكبر".

وبالفعل ما زال طلاب الثانوية العامة (البكالوريا) والجامعات حينها يحتفظون من ذلك اليوم بالكثير من الفرح لتأجيل الامتحان المقبض، وهم اليوم على مشارف الأربعين أو تجاوزوها، إذ كان التأجيل فرصة لتخفيف التوتر بالنسبة إلى الكثيرين ممن تحدثت إليهم عين المدينة، والدراسة المتأنية أو تجهيز أدوات الغش للنسبة للبعض على طرفي النقيض.

بينما حرمت أيام الحداد مشجعي كرة القدم من متابعة بطولة أمم أوروبا على القناة السورية الثانية التي كانت تبث مبارياته، ما اضطر قسماً منهم إلى التقاطر لشراء وتركيب "ستلايت"، أو إلى التجمهر أمام مطعم "فلافل أبو طلاس" المعروف محلياً وقتها، الذي كان قد وضع تلفازاً لعرض المباريات بعد أن انتهت ثلاثة أيام أغلقت فيها محلات السوق، في حين استمرت المقاهي والخمارات وأماكن اللهو على إغلاقها حتى تلاشي مظاهر الحداد تدريجياً.    

لم يُتناقل الفرح وحده في الجلسات الخاصة لأهالي مدينة دير الزور، بل شماتة كبار السن أو دعاؤهم أو نقمتهم أو تذكيرهم الأبناء والأحفاد من خلال جمل مشفرة بأن الأوضاع لن تظل على ما هي عليه. في حين ظل المزاج الشعبي اللاذع لمدينة دير الزور حاضراً في يوم الوفاة وما تلاه من أيام، رغم كل توجس وحذر الآباء والأمهات الذين عاصروا ووعوا وحشية الأسد على مدار عقود، لكنه لم يستطع كتم هلهولة "زغرودة" منفلتة من أحد الأبناء العشرينيين، أو صوت شريط كاسيت يلعلع بأغنية راقصة هنا أو هناك، لكن الذاكرة الشفهية المولعة بالقصص الذكية والمفارقات الطريفة أو الفجائعية، احتفظت من كل ذلك بقصة تقول أن المخابرات اعتقلت أحد الحشاشين لأنه كان يرفع صوت مسجلة الكاسيت في مساء يوم الوفاة بأغنية ياس خضر المشهورة "وداعاً يا حزن".

وفي ذات الذاكرة خزن البعض أن امرأتين من دير الزور اجتمعتا تبكيان بعد يوم أو يومين من وفاة حافظ الأسد، واحدة تبكي فعلاً على موته والأخرى تبكي في تذكر شقيقها الذي اعتقله.