ضيع النساء في الساحل الخالي من الرجال

ليس جديداً على هبة التي تسكن في قرية صغيرة على طريق مصياف القدموس أن تستيقظ باكراً كل يوم، لتفتح الدكان الصغير الذي بناه زوجها قبل عشرة أعوام، وتبيع البضائع الاستهلاكية لسكان القرية، وللعابرين عبر الطريق النشطة أمام محلها، فزوجها يخدم في الحرس الجمهوري بدمشق منذ 15 عاماً حيث كان يقضي خمسة أيام في الخدمة وثلاثة أو أربعة أحياناً في القرية، قبل اندلاع الثورة، والآن حضوره للقرية قليل جداً، قد لا يزيد عن يومين أو ثلاثة في الشهر.

مشهد امرأة تعمل في محل تجاري هو مشهد شائع جداً في مختلف قرى ومدن الساحل السوري والغاب، ويمتد إلى أكثر من عشرين عاماً، بل هو سمة من سمات القرى والأحياء التي يسكنها العلويون، فالنموذج العام للأسرة هو زوج متطوع في الجيش أو الأمن، وامرأة تقوم بالعمل الزراعي أو التجاري. شاع هذا النموذج ابتداءً من منتصف تسعينات القرن الماضي، كتطور اجتماعي اقتصادي رافق الحركة العمرانية وتوسع القرى في الساحل، من ثم انتقال جزء من ولو ضئيل من التجارة والحرف من المدن التي يتحكم باقتصاداتها السنة والمسيحيون والاسماعيليون الى هذه القرى.  

المتغير اليوم، هو أن دور المرأة الرديف والثانوي في قرى الساحل والغاب، تحول إلى دور أساسي، فما كان تسليةً في زمن خدمة الزوج العسكرية وغيابه المؤقت، بات لازماً وضرورياً في زمن مقتله أو اصابته المقعدة له في البيت أو غيابه شبه الدائم كوسيلة لا بد منها أمام الغلاء وانهيار الليرة السورية. لتصير من كانت تتاجر بحقيبة ألبسة تجلبها من طرطوس لتبيعها في الضيعة أو من كانت تقف لتقطيع الوقت في الدكان لتبيع السكر والشاي والمتة والتبغ بضع ساعات في اليوم، باتت مطالبة بتفرغ كامل،  خاصة في حالة من  فقدن أزواجهن للأبد، بل وإخوتهن وأبائهن، وهن كثيرات في ظل التغيّر الكبير بنسبة الذكور القادرين على العمل مقابل الاناث في مجتمع الطائفة العلوية، بفعل الحرب ومفرزاتها المأساوية توابيت يغطيها علم النظام، أو مصابي حرب عاجزين.   

أم فادي خمسينية توفي زوجها وفاة طبيعية إثر جلطة قلبية، فيما قتل ولداها على جبهات ريف حلب، وكذلك صهرها في ريف دمشق، وابن أخيها، وزوج ابنته، فيعاد توزيع أفراد أربعة عائلات متجاورة في ضيعة البلوطية بريف طرطوس من ستة رجال وأربع نساء وطفلين إلى أربع نساء وطفلين ورجل ستيني هو شقيق أم فادي الذي «ما بتنشف الدمعة من عينه» حزناً على مقتل ابنه وخراب بيت ابنته بمقتل زوجها، حسب ما تقول أم فادي التي تصر على تحدي الصعاب وفتح الدكان في الساعة صباحاً كل يوم، تعاونها زوجة أخيها فيما تعمل ابنتها وابنة أخيها في زراعة قطعة الأرض الصغيرة التي تمتلكها العائلتين على أطراف القرية.

إلى جانب محل أم فادي هناك محل موبايلات تشغله سيدة ثلاثينية فقدت زوجها أيضاً، ومحل البسة كان غرفة من بيت، فتح جدارها على الشارع بعد مقتل صاحبه صف الضابط في دير الزور، وتقف فيه أرملة أخرى طوال النهار بانتظار زبائن قليلاً ما يشترون.

تقول نوال (اسم وهمي) لشابة من قرية الطواحين بريف طرطوس لعين المدينة «مو حكي لما تمشي بضيعتنا بتتأكد انه مابقى فيها شباب،،ولا بقى لهن فيها اثر غير الصور عالحيطان او القبور بالمقبرة، لك حتى محلات اللبس ما بقى فيها لبس شباب» مثل كثيرات في الحافلات الصغيرة التي تنقل الموظفين من الريف الى المدينة، ترتدي نوال اللون الأسود حداداً على مقتل شقيقها علي، ولا تعلم متى سترفع هذا الحداد لكن لا شيء يبدو مبشراً في الأيام القادمة حسب ما تقول ، ورغم كل شي  «منقول الحمد لله على الاقل أنا ملاقاية وظيفة وغيري مانو متوظف»

في المناسبات وغالبها مآتم يشكل الرجال المتقدمون في السن النسبة الغالبة بين المشاركين ويظهر الى جانبهم بنسبة ضئيلة شبان قادمين في اجازات من جبهات القتال وصادف وجودهم في الضيعة المناسبة، أو من المعفيين من الخدمة العسكرية أو الجرحى تعلق نوال على المشهد الذي اسهبت في وصفه «هدا عزا بالكل مو بس بالشهيد»  

يزرعن الأرض، يركضن في الأسواق، يقفن على أبواب المحاكم، يوكّلن المحامين، يقبضن الرواتب التقاعدية والتعويضات عن مقتل الأزواج والأخوة والأبناء، يتوسلن لتوظيف بناتهن لتخرجن من القرى الخالية من الرجال، ليس من أجل الراتب فحسب، بل علَّ البنات يصادفن رجالاً في وظائفهن الجديدة، فالموت لم يبق ولم يذر في القرية شباناً للزواج.