تلوح في الأفق معالم توافق روسي أميركي بخصوص محافظة دير الزور. توافقٌ لم تُعرف تفاصيله الدقيقة بعد, لكن يمكن استقراء ملامحه الأولية ضمن التقسيم الجغرافي للمحافظة, بحيث تكون الضفة الشمالية للنهر (الجزيرة) منطقة نفوذ الولايات المتحدة, بينما تخضع الضفة الجنوبية (الشامية) للنفوذ الروسي.

 بوادر التوافق:

أولاً: من الجهة الشامية ظهرت أولى المعطيات بوصول قوات النظام وميليشياته، بإدارة وتغطية جوية روسية، إلى الحدود السورية العراقية شمال قاعدة «التنف» الأميركية, والسيطرة على «حميمة»، ووقوفها على مشارف المحطة الثانية T2, وبالتالي قطع الطريق على جميع فصائل المعارضة الموجودة في البادية السورية. وتظهر ثانيها في اتفاق «العكيرشي» الذي أفسحت بموجبه «قوات سوريا الديمقراطية» الطريق لقوات النظام وميليشياته للتقدم على الضفة الجنوبية لنهر الفرات اعتباراً من قرية «دلحة» باتجاه دير الزور. وثالثها إعلان وزارة الدفاع الروسية بدء التقدم باتجاه دير الزور (الثلاثاء 22-08-2017)، بعد السيطرة على «السخنة» وتطويق تنظيم الدولة في منطقة «عقربات» في بادية حمص. حدث هذا كله تحت غطاء من الصمت الأميركي.

لكن على هذا الجانب تبقى عقدة إيران وطريق طهران-دمشق, تلك العقدة التي لا يمكن للولايات المتحدة السكوت عنها ما لم تقدم روسيا ضمانات بإبعاد إيران عن المعابر الحدودية بين سوريا والعراق في المستقبل.

ثانياً: من جهة الجزيرة، حيث لا تزال الولايات المتحدة (قائدة التحالف ضد الإرهاب) مشغولة بالرقة لكنها تحاول توجيه رسائل متزامنة على مستويين لأبناء دير الزور:

- الأولى عسكرية، عن طريق المقدم مهند طلاع قائد فصيل «مغاوير الثورة» المدعوم من البنتاغون, مفادها أن الولايات المتحدة ستنشئ غرفة عمليات عسكرية خاصة بمحافظة دير الزور في مدينة «الشدادي», معزولة تماماً عن «قوات سوريا الديمقراطية», شريطة أن يتجمع 500 مقاتل على الأقل من أبناء دير الزور مقبولين أميركياً.

تلك الرسالة التي فهمها العسكر الديري المعارض جيداً, فأخذت الساحة تعج بمبادرات التوحد والتوافق أو حتى التجاذب, فشهدنا ولادة «لواء تحرير دير الزور» الذي ضم ما تبقى من غالبية كتائب مدينة دير الزور, ورأينا نشأة تحالف بين «جيش أسود الشرقية» و«قوات أحمد العبدو»، الموجودان في البادية السورية، مع فصيل «أحرار الشرقية» (الشرقيين من أحرار الشام) الموجود في مناطق سيطرة درع الفرات, وإعلان هذا التحالف أن البادية هي الجبهة الوحيدة التي يمكن تحرير دير الزور عبرها.

لكن، أيضاً، في هذه الطروحات هناك عدة عُـقَـد لم تُحل بعد:

أولها مصالح تركيا التي لم تحسم أمرها بالوقوف مع أحد هذه المشاريع أو الوقوف في وجهها جميعاً, ودون الموافقة التركية لن يستطيع أي مقاتل الانتقال إلى الشدادي أو إلى البادية السورية في الجنوب.

وثانيها عن إمكانية تجميع 500 مقاتل على الأقل -مقبولين أميركياً- في الشدادي، ضمن سباق مع الزمن متعلق بانتهاء معركة الرقة، الأمر الذي بات قريباً، من جهة, وتقدم قوات النظام باتجاه دير الزور من جهة أخرى, وعن مدى إمكانية هذا العدد لتحرير مساحات واسعة متمثلة بمنطقة الجزيرة في محافظة دير الزور.

وثالثها عن الدعم الأميركي لفصائل الجنوب، والذي ينتهي في الشهر العاشر من هذا العام حسب بعض التسريبات, وعن التغطية الجوية التي لم تحضر أبداً طوال مدة الدعم.

- الثانية سياسية، تسرّبها الولايات المتحدة عبر بعض قنواتها. ومفادها أن الإدارة الأميركية تبحث عن مشروع متكامل لتحرير دير الزور وإدارتها من قبل أبنائها, وأن هذا المشروع ينبغي أن يكون متناغماً مع مشروع البنتاغون -مغاوير الثورة- انطلاقاً من الشدادي. وربما تشهد الساحة الإعلامية بعض هذه المشاريع في المرحلة القريبة جداً, إذ يعمل رياض درار، رئيس «مجلس سوريا الديمقراطي»، على تشكيل جسم مدني في مناطق سيطرة قسد من أبناء دير الزور.

خريطة من معرفات داعش للمناطق الشرقية

ماذا بعد؟؟

بعد توضيح معالم التوافق الروسي الأميركي يبقى استشراف السيناريوهات المحتملة لمحافظة دير الزور, والتي يمكن تلمّس ثلاثة منها انطلاقاً من منطقة النفوذ الأميركي (الجزيرة):

  • السيناريو الأسوأ: قد تكون الرسائل الأميركية، العسكرية والسياسية، وسيلة لإلهاء الوسط المعارض بتجاذبات ريثما تسيطر قوات النظام، المدعومة روسياً، على كامل الضفة الجنوبية لنهر الفرات في محافظة دير الزور, ومن ثم عبورها إلى الضفة الشمالية لتسيطر على باقي المحافظة وتفرض أمراً واقعاً على قوات المعارضة التي لم تعد تملك أي منفذ للقتال في دير الزور دون إذن أميركي-تركي.
  • سيناريو بين بين: قد تعتمد الولايات المتحدة على «مغاوير الثورة» في منطقة الشدادي لقيادة فصائل عربية من مثل «قوات النخبة» و«المجلس العسكري لدير الزور», وبدعم من «قسد»، لتحرير الضفة الشمالية من المحافظة وتسليمها لمجلس مدني من قبيل مجلس رياض درار.
  • السيناريو الأقل سوءاً: يفترض هذا السيناريو اتفاق جميع فصائل الجيش الحر (أو غالبيتها) على تحرير الضفة الشمالية للنهر اعتباراً من غرفة عمليات الشدادي, ونقل جميع مقاتلي الفصائل إلى هناك، بمباركة تركيةٍ تتقاطع مع مصلحتها بعدم توسع قسد في مناطق عربية أُخرى. ويفترض أن القوى السياسية والمدنية الديرية المعارضة استطاعت تقديم نموذج لإدارة مدنية تقبله الولايات المتحدة, الأمر الذي ستنتج عنه منطقة محررة بإدارة مدنية وعسكرية من أبناء دير الزور, حدودها نهر الفرات جنوباً والحدود الإدارية لمحافظة دير الزور من الشرق والغرب والشمال, تحت النفوذ الأميركي الذي يشترط عدم قتال النظام لاحقاً, وحسن الجوار مع مناطق سيطرة قسد.

تبقى الإشارة إلى أن أي محاولة للتقدم باتجاه دير الزور من البادية السورية ستصطدم بقوات النظام, وبالتالي لن تكون مدعومة من أي دولة في ظل إمساك الولايات المتحدة بجميع خيوط الدعم, والتي باتت تشترط محاربة الإرهاب فقط دون النظام قبل السماح بأي دعم, الأمر الذي سيجعل قوات المعارضة عرضة للإبادة من قبل سلاح الجو الروسي-السوري, في براري مكشوفة لا مخابئ فيها.

ماذا بعد داعش؟؟

تفقد المعارضة الديرية جميع أوراقها في حال طُبّـق السيناريوهان الأول أو الثاني, لكنها أمام استحقاق ثقيل إذا طبّق السيناريو الثالث المشروط بعدم قتال النظام. وفي هذا السياق لديها الكثير من الأسئلة للإجابة عنها:

- هل سيبقى الوضع على حاله إلى ما لا نهاية في محافظة دير الزور؛ الشامية تحت سيطرة النظام والجزيرة تحت سيطرة المعارضة؟

- هل ستجري مفاوضات موضعية مع النظام, متعلقة بدير الزور فقط, بمعزل عما تبقى من الثورة؟

- هل ستكون دير الزور جزءاً من مفاوضات الحل النهائي لسوريا في جنيف وأخواتها؟

- ما هي الملفات التي ستأخذ الحيز الأهم في أي مفاوضات: رحيل الأسد؛ المعتقلون؛ المطلوبون؛ المهجرون؛ المتضررون؟

- ما هي الملفات التي ستسقط تحت ضغط التفاوض والتوافق بين القطبين الضامنين والضاغطين, روسيا والولايات المتحدة؟

هذه الأسئلة، وأسئلة أُخرى كثيرة وصعبة, يجب على معارضة دير الزور الإجابة عنها, قبل الدخول في خلافات أو اتخاذ أي قرار يحدد مصير دير الزور وثُمالة الثورة فيها.

هذه الثورة التي لم تمتلك يوماً معارضة وطنية فاعلة تمثلها, وتبحث بين مصالح الدول عن مصالح منطقية وعقلانية قابلة للتحقق, بل ابتُليت بمعارضة همها الأكبر أن تحل محل نظام الأسد دون اكتراث بالطريقة, فحاولت بمجلسها الوطني اجترار النموذج الليبي, واعتمدت التصعيد في خطابها الداخلي واستجداء التدخل الأميركي في خطابها الخارجي, الأمر الذي قال عنه روبرت فورد في أكثر من مناسبة: «الولايات المتحدة لن تتدخل من أجلكم». معارضة جعلت من ارتماء ثوار دير الزور في حضن الولايات المتحدة الخيار الأقل سوءاً, إن لم يكن الأفضل في نظر البعض.

دير الزور - رويترز