داريا - عدسة شاب دمشقي

على مدار سنوات تعرضت داريا لواحدة من أقسى الهجمات العسكرية؛ اتبع النظام مستعملاً المقاتلات الحربية والمعدات الثقيلة سياسة الأرض المحروقة. معظم البيوت تهدمت بفعل القصف، وبعد خروج الثوار وعد النظام عشرات الآلاف من السكان بالرجوع إلى منازلهم، لكنه أخلّ بوعوده ما جعلهم يلجؤون إلى وسائل جديدة في التعبير عن حنينهم لمدينتهم. وهكذا غدت المعادلة كالتالي: ما دامت العودة الحقيقية غير واضحة المعالم فلتكن افتراضية عبر الملتيميديا وبإمكانيات بسيطة.

لم أتمكن حتى اللحظة من الحصول على تسجيل لمنزلي مع أغنية حزينة على غرار تلك التسجيلات التي يتناقلها سكان داريا لمنازلهم المدمرة، والدتي أرسلت إلى مؤخراً مقطعاً مرئياً لبيت جدي مع أغنية "وأنا مارق مريت، جنب بواب البيت، بيت الكانوا سكانو". الأغنية التي عشقتها منذ سن الخامسة لدرجة أني كنت أقف متسمراً أمام التلفاز كلما أذيعت على القناة الأولى. لم أشاهد في بيت جدي سوى جدران متهالكة، تفشت فيها الرطوبة التي انتزعت الطلاء الأبيض للجدران بقسوة واضحة، وما سوى ذلك من الأثاث والنوافذ والأبواب وجميع ما كان في المنزل من أشياء كانت مفقودة، بعد أن وجدتْ لها مكاناً ما في أسواق التعفيش على أرصفة الشوارع في العاصمة.

أقول لأمي بعد تكرار المشاهدة عدة مرات "أنتم تتناقلون هذه التسجيلات كما الهدايا الثمينة" فتجيب على الفور "منعنا من السكن في بيوتنا فحملناها معنا ضمن استديو الصور في هواتفنا الذكية".

مستخدماً مهارته المتواضعة جداً في المونتاج، يحاول قريبي الذي يقيم بالقرب من دمشق "أبو عماد" تجميع أكبر قدر ممكن من الصور وتسجيلات الفيديو لمنزله بمدينة داريا في مقطع واحد. اختار أغنية "دار يا دار يا دار.. راحوا فين حبايب الدار" لترافق صور المنزل المسروق والمهدم. كانت الكلمات حزينة بالقدر الذي جعل الخمسيني الذي علاه الشيب يبكي بحرقة وهو يضع اللمسات الأخيرة على الفيديو، الذي طالما كان حلماً بالنسبة إليه ولمئات النازحين من أهالي المدينة.

كل ما في الأمر أغنية حزينة. لقطات عفوية جمعت على عجل. صور لبيوت وحارات مهدمة. ومع ضغطة نهائية على زر "حفظ المشروع" تكون النتيجة إنتاج مرئي بسيط جداً، لكنه بالغ الأهمية في نظر أصحابه على الأقل، يُرسل عبر إحدى وسائل التواصل الاجتماعي إلى الأقارب والمعارف ليستقبل بكثير من الامتنان، والشوق، وشيء من الأمل.. وهذه هي الوسيلة الوحيدة التي ينتهجها السكان الأصليون لمدينة داريا، عبر خلق نوع من الذاكرة الحية، باستخدام الملتيميديا كبديل عن الواقع الذي يبدو تحقيقه بعيداً.

متحدثاً حول الفاجعة ووسائل التغلب عليها يقول أبو عماد "كانت مشاهدة داريا حلماً جباراً بالنسبة إلينا نحن البعيدين عنها". زار أبو عماد داريا فور إعلان غير جاد من قبل النظام عن عودة الأهالي: شاهد الطرقات المهدمة، أسلاك الكهرباء المقطوعة، الأبنية الطابقية العالية التي أركعتها آلاف البراميل المتفجرة. وبصعوبة بالغة تمكن من التعرف على حارته، أما بيته فعرفه من المصطبة الإسمنتية القريبة من باب الدار، والتي كان يجلس عليها مع صديقيه المقربين أبو عبدو وأبو تيسير في الليالي المقمرة، بينما لم يجد الباب الخارجي ولا قطعة الرخام الكبيرة التي كانت أمام الباب.

"صورت كل شيء" يقول قريبي بنبرة حزينة. "لكني لم أشاهد سوى جدران مهدمة فقط". فور انتهائه من التسجيل أرسله عبر واتساب إلى أبنائه الذين يقيمون في تركيا، ليعرّفهم ما آل إليه المكان الذي قضوا بين أرجائه سنوات شهية من عمر لا يمكن أن يعود أبداً.

أحد معارفه -بعد مشاهدة التسجيل- طلب منه الدخول إلى منزله لالتقاط بعض الصور. توالت الطلبات من آخرين أيضاً.. كان قد حصل على بطاقة أمنية تخوله الدخول في ساعات محددة من النهار.. "صورتُ عشرات اللقطات لعدة منازل. كنت أختار أغانٍ حزينة، وأضم صور كل منزل إلى بعضها ليخرج فيديو جديد". يبتسم بينما تبدو على وجهه علامات الرضا "كان هذا إنجازاً كبيراً".

معظم أبناء داريا الذين توزعوا في بلدان اللجوء في تركيا، أوروبا، كندا، الولايات المتحدة.. شاهدوا منازلهم بهذه الفيديوهات.. الحنين والشوق لداريا جعلهم يطلبون من معارفهم المقيمين في العاصمة ويستطيعون دخول المدينة تصوير لقطات مماثلة. أبو فادي الذي حصل أخيراً على بطاقة للدخول أرسل مقطعاً مصوراً لابنه المقيم في إدلب. تمعّن فادي في كل تفاصيل البيت الذي جمعه مع عائلته في الأيام الخوالي. "البيت الفارغ تماماً أعاد إلى دافع التمسك بالأرض حتى آخر قطرة دم حمراء" يقول فادي. أما والده الذي تجاوز الخامسة والخمسين فيحلم بالعودة قبل فوات الأوان. "أنتظر لحظة إقامتي في بلدي بشكل دائم، مللت من حياة النزوح، وليس لي من أمنية سوى الموت في منزلي".