أواخر نيسان المنصرم اعتصم عشرات من ناشطي مدينة السويداء في إحدى ساحاتها (ساحة الفخار) ضمن ما قالوا إنها حملة سموها «من الأول يا ثورة». الاعتصام السلمي والتسمية والمكان تحمل دلالات عن النمط الخاص للحراك الذي تميزت به السويداء التي اقترن اسمها بثورة عام 1925، الثورة الشعبية الأوسع ضد الانتداب الفرنسي. وكما عرف اسمها مقترناً بشخصية سلطان باشا الأطرش زعيم تلك الثورة، عرف بشخصيات وظواهر أخرى أسهمت في صناعة التاريخ السوري في القرن العشرين.

 

محطات في حراك السويداء

تأخرت السويداء عن الالتحاق كما يجب بركب المحافظات المنتفضة على نظام الأسد، ويذهب كثيرون إلى أنها لم تلتحق أبداً. يزعج هذا النفي بعض أبناء السويداء ممن خرجوا في حراكها الثوري. يقول ناشط شارك في الاعتصام الأخير وطلب إغفال اسمه: «لبت السويداء نداء الثورة فخرج العديد من أبنائها في أول مظاهرة في المدينة بُعيد ما جرى في درعا، وكان أول اعتصام أو مسيرة شموع في ساحة سلطان الأطرش تضامناً مع أطفال درعا المعتقلين في سجون النظام يوم 18 آذار 2011. وسارعت منتهى الأطرش، ابنة سلطان، إلى إصدار بيان يؤكد وحدة الدم السوري، قبل أن تقيد حركتها وتوضع تحت الإقامة الجبرية تقريباً بضغوط أمنية وعائلية. وكانت نقابة محامي السويداء من أول النقابات، بل أول نقابة تدعو إلى اعتصام ضد تعامل نظام الأسد مع الثورة، تلته دعوة النقابة إلى الإضراب في بيان أكد على رغبة الشعب السوري في التحرر. وتبعتها في ذلك نقابة المهندسين. وفي 17 نيسان من ذلك العام خرجت مظاهرة كبرى في ساحة الشعلة، أحاطت بها مجاميع الأمن والشبيحة قبل أن تنقض على المتظاهرين لتفريقهم والاعتداء عليهم. كما خرجت مظاهرة كبيرة في بلدة القريا وفرقت أيضاً بالطريقة ذاتها واعتقل عدد من المشاركين فيها. لتتسع بعد ذلك رقعة المظاهرات وتصل إلى مناطق أبعد في صلخد وشهبا وغيرها. ونوّع الثوار، كما في محافظات أخرى، طرق احتجاجهم حسب مقتضيات الحال التي تحكمها ممارسات النظام التي تنوعت بين التهديد والاعتقال والتعذيب والقتل أو التصفية. وفي الخلفية كانت الصور تأتي من البؤر الثائرة الأخرى في حمص ودرعا وإدلب وريف دمشق، لينقسم رأي ثوار السويداء بين من أراد التصعيد وتحدي النظام وبين من آثر العمل بنفس طويل وتفويت الفرصة على النظام بسحق الحراك كله كما فعل في مناطق أخرى، ويستقر الحال أخيراً على الخيار الأخير. لتكون الأنشطة الإغاثية والأنشطة الأخرى التي تعنى بالنازحين وخطوات العمل المدني، بديلاً «مؤقتاً» -كما يأمل معظم الناشطين- عن الحراك الثوري المباشر إلى أن يحين الظرف المناسب».

لم تتوقف أشكال الاحتجاج ضد النظام، رغم تغير شعاراتها المعلنة من سياسية تنادي بالتغيير وبمطالب الثورة أول الأمر، إلى مطالب اقتصادية وخدمية وإجرائية اتقاء لشرور النظام وبطشه من جهة ومراعاة لخصوصية المحافظة من جهة أخرى. وتعددت الحملات أو الحركات التي أطلقها الناشطون بين وقت وآخر، من «حطمتونا» إلى «لا» التي اتخذت من وقف التجنيد الإجباري لأبناء السويداء مطلباً رئيسياً لها، إلى حملات أخرى ذات طابع مدني مطلبي في مجملها، كان آخرها حملة «بدنا نعيش» التي لم تشهد تجاوباً كبيراً للأسباب ذاتها التي لم تجعل حراك السويداء يتطور. وفي كل الحالات كان قادة هذا الحراك هم أنفسهم.

 لم يمارس النظام سياسته المبنية على العنف بشكل مباشر بسبب الطبيعة الاجتماعية والإثنية لمحافظة السويداء، التي تشكل شبه وحدة دينية مستقلة عن سواها، ومجموع السكان على المذهب الدرزي فيها يشكلون واحدة من الأقليات الدينية التي يجتهد النظام بتصوير ذاته أنه حاميها من الارهاب.

يقول (خ. ح)، وهو ناشط سياسي: إن «السويداء معتقلة منذ وقت طويل»؛ فـ«القطع العسكرية تحيط بها من كل جانب، ومقر الفرقة 15 داخل المدينة، وفي بعض القرى تتمركز مقرات الوحدات العسكرية بين البيوت». وهذا سبب من أسباب ضعف الحراك الثوري في المحافظة، إضافة إلى القبضة الأمنية، فضلاً عن الممارسات الأخرى طويلة الأمد في إضعاف نفوذ العائلات والشخصيات الوطنية العريقة، لحساب صاعدين جدد ارتبطت مصالحهم بمصالح النظام الذي لجأ، أكثر من مرة، إلى قتل بعض الشخصيات التي قد تشكل خطراً عليه، مثلما فعل مع الزعيم البعثي المعارض شبلي العيسمي باختطافه من محل إقامته أو منفاه في لبنان ثم تصفيته في معتقلات المخابرات الجوية بدمشق، وكما فعل مع بعض شيوخ السويداء كأحمد الهجري ووحيد البلعوس ورفاقه.

يلخص جمال الشوفي، وهو كاتب وناشط سياسي، الأسباب التي أدت إلى تراجع الحراك الثوري في السويداء بما فعله النظام خلال سنوات من عزل البيئة الاجتماعية للمحافظة عن محيطها بإقناع قطاعات واسعة من سكانها أنهم طائفة مستهدفة حالهم حال العلويين وغيرهم من الأقليات، وبأن ما يحدث هو صراع سنّي شيعي وأن القضاء على الأقليات واضطهادها واحد من أهدافه. وفي مدينة فقيرة مثل السويداء تشكل الوظائف الحكومية سبيل عيش رئيسي يكاد يكون وحيداً لعشرات الآلاف من السكان، ما عزز اعتماد هؤلاء على الدولة ورفع مستوى مخاوفهم أمام تهديدات أجهزة الأمن لكل من يحاول الاحتجاج بالفصل من الوظيفة وقطع لقمة العيش، وكذلك التهديد بترك السويداء عرضة لسيطرة تنظيمات متشددة مثل داعش.

يذكّر الشوفي ويذكّر كثر من أبناء المحافظة بحادثة عام 2000 حين تطور نزاع بين أهل السويداء وجيرانها من البدو إلى معارك دامية داخل المدينة أطلقت خلالها يد أجهزة الأمن لتقتل 16 شخصاً من أبنائها وتعتقل المئات، كعامل تخويف مسبق ربما لعب دوره في الكشف عن الطبيعة الوحشية المنفلتة لنظام الأسد وفي الوقت ذاته زرع في ذاكرة أهالي المدينة صورة لما يمكن أن يحدث في حال قرروا الانتفاض على النظام أو الوقوف ضده.

كان للنظام أسلوب مختلف في السويداء وأبدى حذراً وعناية فائقتين بالتعاطي مع حراكها السلمي، لأنه لا يستطيع أن يلصق بها تهمة التطرف والإرهاب والتبعية لأجندات تكفيرية كما في محافظات سورية أخرى، ولذلك بذل جهوداً إضافية في تأسيس ودعم شبكات قمع محلية قوامها أبناء المحافظة وبقيادة أشخاص منها يعملون بتوجيهات أجهزة المخابرات المحلية، لتعميق الشرخ الاجتماعي وزيادة الانقسام على أساس الولاء للنظام أو معارضته، وبالتالي إضعاف المجتمع كله.

يسجل لأهل السويداء أنهم هاجموا خياماً نصبت لاستقبال النازحين، إذ رأوا فيها تصرفاً غير لائق أمام ضيوف وإخوة يجب أن تفتح لهم البيوت، وفق ما قال بيان صادر عن ثوار المدينة. وحتى الآن ما زالت السويداء واحدة من الوجهات المفضلة للنزوح رغم الفوضى والانفلات الأمني والممارسات التمييزية من قبل أجهزة المخابرات ضد الوافدين.

خلدون زين الدين ورفاقه

في أيلول من عام 2011 انشق الملازم أول خلدون زين الدين ابن قرية شعف (شرق السويداء) عن جيش النظام، ليعلن انضمامه إلى لواء الضباط الأحرار المؤسس حديثاً آنذاك كإطار يستوعب الضباط المنشقين بقيادة المقدم حسين هرموش. وبعد شهر أسس زين الدين كتيبة سلطان باشا الأطرش التي ضمت حينها شباناً من محافظتي درعا والسويداء بلغ عددهم حسب ناشطين 123 شاباً. خاضت هذه الكتيبة معارك عدة ضد حواجز لقوات النظام في المحافظتين قبل أن يقرر زين الدين في 2013 خوض معركة أخطر بمهاجمة مواقع أكبر في منطقة ظهر الجبل في محافظة السويداء، عازماً على توسيع ظاهرة الجيش الحر إلى ثورة هذه المحافظة بنقل المواجهات إلى أرضها. وعن هذه المعركة يقول الملازم أول فضل الله شقيق خلدون في لقاء مع مجلة «ضوضاء»: «كان الهدف الأساسي إدخال محافظة السويداء في العمل العسكري أسوة ببقية المحافظات السورية الثائرة، وتطويق الفكر الطائفي والتعصب تجاه المحافظة والأقليات بشكل عام»[1]. ويبدو أن هذا الهدف الكبير دفع خلدون إلى تجاهل فارق القوة مع النظام، ليخوض معركة بطولية قضى فيها إلى جانب 14 من المهاجمين، وبذلك قُضي على الحراك المسلح للسويداء في مهده.

وغير خلدون لمعت أسماء أخرى لضباط من السويداء انشقوا عن جيش النظام، منهم اللواء فرج المقت والعقيد مروان حمد والمقدم حافظ فرج الذي انشق في مدينة موحسن بدير الزور في الشهر الخامس من العام 2012 وقاتل في مناطق مختلفة من سوريا، والملازم أول مهند العيسمي وغيرهم. ولا ننسى بالطبع الملازم أول أميرة أبو حصاص زوجة خلدون، إضافة إلى مئات وربما آلاف المنشقين من المجندين الذين رفضوا العودة إلى جيش النظام وآثروا البقاء في قراهم وبلداتهم.

تأثر الحراك العسكري في السويداء، كما المدني، بالقبضة الحديدية التي تمارسها القوى الأمنية التي أطلقت يد الشبيحة من أبناء المحافظة ودعمتهم بالسلاح. وفي هذا الإطار يبرز اسم وفيق ناصر، الذي يعد الحاكم الفعلي للسويداء، وهو رئيس فرع الأمن العسكري وقائد الشبيحة فيها بالتنسيق مع بعض الفعاليات الدينية والمدنية التي ترأست مجموعات التشبيح. وكذلك يبرز اسم العميد عصام زهر الدين وعائلته، وخاصة ابنه يعرب وأبناء عمومته وإخوته، إذ خاض العديد من المعارك وارتكب العديد من المجازر في بابا عمرو وحلب ودير الزور، وشكل العديد من المجموعات التي مارست التشبيح على أهالي السويداء، وأبرزها مجموعة نافذ أسد الله.

في قراءة قد تكون متعجلة لسيرة الحراك الثوري في محافظة السويداء، كان خلدون زين الدين ورفاقه من الضباط المنشقين، وكذلك قادة الحراك السلمي وناشطيه، نخبة متعلمة ومسيسة في آن واحد، حالت عوامل متعاضدة دون توسيع مساحات تأثيرها. ولو قدر لها أن تمتد لزمن أطول لتغير الكثير في حكاية السويداء ولحرمت نظام الأسد من واحدة من أباطيله المفضلة بأنه يحارب الإرهاب الإسلامي.