العبور إلى تركيا (2 من 3)
بين الخطة والواقع

في البيوت الجماعية التي يخصصها الوسطاء للزبائن، وفي سيارات النقل ومكاتب التهريب، وعلى الأرصفة… تغدو تركيا في متناول اليد. و يقع «الراكب» في شباك الجمل السحرية التي تتكرر على مسامعه: اليوم تتعشى بتركيا، الصبح أنت بتركيا..

عندها يبدأ التفاوض على المبلغ وكيفية تسليمه، وماذا يشمل في رحلة العبور، ثم يبدأ شرح خطة اجتياز الطريق. فهناك طريق حارم: اجتياز الجدار، ثم الانتظار في الأراضي الزراعية، ثم المتابعة عندما يرى المهرب ذلك ممكناً، ليصبح الراكب على الطرف الآخر من الحدود حيث تنتظره سيارة المهرب التركي. وهناك العاصي: حيث قطع النهر بمركب صغير، ثم الزحف بين المزروعات لمسافة قصيرة، ثم يأتي الزفت التركي. وهناك طريق «العيَل» (العائلات): حيث المشي الطويل، لساعتين تقريباً. وهناك «الإزن»: عندما يمر الركاب من جوار المخفر التركي بموجب اتفاق بين المهرب التركي وضابط، أو عناصر، الجندرمة.

يستعمل البعض أراضيهم المتاخمة للحدود في تهريب الركاب، لكنهم لا يستطيعون منع أحد من استعمالها، بينما يلجأ آخرون إلى أراض مشاعية لاستعمال الحدود، في وقت محدد تسمح به هيئة تحرير الشام. وتتقاضى الهيئة 50 دولاراً عن كل راكب مقابل وصل للعبور، وتشترط على المهربين للعمل أموراً عدة منها عدم تقاضي المال عن الأطفال، الذين يحتسب كل ثلاثة منهم دون العاشرة كراكب في عرف التهريب، ويخفي أهاليهم ذلك، بتواطؤ مع المهربين، عن الحواجز التي تنصبها الهيئة على الطرق المؤدية إلى الحدود، لتفقّد الركاب والتأكد من دفع الوصول عنهم. وقد عرفت، بعد أن أخفانا أحد المهربين في القسم الخلفي من الفان الذي نقلنا فيه إلى الحدود، وقبل أن نصل إلى حواجز الهيئة؛ أن هناك تهريباً آخر يلجأ إليه البعض للتملص من دفع قيمة الوصول، بينما يدفع غيرهم 150 دولاراً لعناصر في الحاجز للسماح لمجموعتهم بالعبور دون وصول. وقد تشترط الهيئة على المهرب الذي حصل على «إزن حقيقي» دفع 100 دولار عن كل راكب وإدخال جريحين من مقاتليها إلى الأراضي التركية.

مع الاقتراب من الحدود يبدأ الدليل بالإفصاح عن حقيقة الطريق الذي سيسلكه بالركاب. فطريق حارم، الذي كان جداراً وانتظاراً لبعض الوقت ثم المتابعة باتجاه القرية التركية؛ يصبح جداراً، ثم خندقاً ارتفاعه أربعة أمتار، ثم أسلاكاً شائكة، فسياجاً معدنياً، فانتظاراً في أرض أشواك لست ساعات بالحد الأدنى، ثم اجتياز جدار آخر أو قسطل تحته للدخول إلى الأراضي الزراعية التركية، التي يراقبها عناصر الجندرمة كذلك. بينما يزحف ركاب العاصي لساعات في حقول القطن أو الفليفلة للوصول إلى «الطريق العسكري التركي»، حيث تنتشر محارس الجندرمة، واقتناص غفلة منهم للمتابعة. في حين يكتشف العديد من الركاب، بعد أن يكونوا قد بدأوا طريقهم مطمئنين، أن طريق «الإزن»، الذي دفع أحدهم 2000 دولار أو أكثر للعبور منه؛ ما هو إلا طريق تهريب يلجأ المهرب فيه إلى إدخال الكثير من المجموعات -العراقيين خاصة- لإشغال عناصر الجندرمة، ومن ينجو من تلك المجموعات يصبح في تركيا مقتنعاً أنه دخل إليها بإذن، بينما يعيد المهرب المبالغ التي أخذها لمن أمسكته الجندرمة من الركاب مع أعذار عديدة، كاختلاف الضباط في ما بينهم.

قبل البدء بالعبور يتراجع البعض بسبب الصعوبات أو سماع أصوات رصاص الجندرمة. عندها يستعمل المهربون الفيديوهات التي يصورها الأدلاء للركاب بعد وصولهم إلى تركيا لإقناع المتراجعين، ويتابع من يتابع رغم اعتقاد راسخ لديه بأن المهربين «يكمّشون» مجموعات من الركاب قصداً، بإرسالهم في أوقات يقظة الحرس الكاملة أو من طرق مكشوفة، لتمرير مجموعات أخرى.

يبقى أن الكثير من الركاب يقدمون على العبور دون أن يضعهم المهربون والأدلاء والوسطاء في صورة الطريق الحقيقية. وهو ما وقع لي مع مجموعة حين حاولنا من طريق «التلول»، وشرح لنا الوسيط بأننا بعد أن «ننط» الجدار سننزل في خندق عمقه أربعة أمتار، فيه قناة ري تكون جافة في الغالب، ثم نخرج منه إلى حقل ذرة على بعد 100 متر يجب قطعها ركضاً، دون الالتفات إلى رصاص الجندرمة، فبمجرد الوصول إلى الذرة سيتركوننا لصعوبة البحث فيها، وباجتياز الحقل نصل إلى ساتر نعبره لنصبح في القرية التركية. وأضاف المهرب أن حقل الذرة يبعد 400 متر عن نقطة العبور، بينما يبعد المخفر كيلومتراً واحداً، وأن الماء في قناة الري يصل إلى الخصر. بعدها ارتقى سلماً وضعه على الجدار، وفتح ثغرة في الأسلاك الشائكة فوقه، وأشار إلينا أن نبدأ. قفزنا الجدار دونه، ثم نزلنا في الخندق لنكتشف أننا أمام نهر العاصي، وأن المسافة بين المخفر ومكاننا تقترب من المسافة بينه وبين حقل الذرة، الذي تفصله عنا أسلاك شائكة وسياج معدني، بالإضافة إلى أصحابه الذين كانوا يعملون فيه وقتها، وتركوا أشغالهم ليساعدوا في الإمساك بأفراد المجموعة. عند ذلك كنت قد اجتزت النهر بصعوبة واختبأت على حافته أراقب... وبعد يأسي، خرجت مستسلماً لغضب عناصر الجندرمة.