الشيخ سرور زين العابدين والسلفية الحركية

حين انتشر تأثير السلفية في المناطق المحرّرة من سورية، في السنوات الأخيرة، جلب هذا المنهج معه مصطلحاته وتنابزه بتهم الانتماء إلى تياراتٍ داخليةٍ فيه. كانت هذه الاتهامات طارئةً على اللغة الإسلامية المحلية، وبدت بعض الأسماء والأوصاف تراثية، قبل أن يكتشف الجمهور حداثة بعض هذه التيارات، كـ«السرورية» التي تبيّن، فوق ذلك، أنها ترجع إلى رجلٍ سوريٍّ توفي منذ أسابيع.

ولد محمد سرور بن نايف زين العابدين في قرية تسيل بمحافظة درعا عام 1938، في بيئةٍ «قبليةٍ» كما يصفها، وفي أجواء نهوضٍ وطنيٍّ أتاحت له أن يكون من الأجيال الأولى التي تلقت تعليماً نظامياً في المنطقة. وفي المدرسة، التي تميّزت أيامها بالتظاهر والإضرابات ونشاط التيارات السياسية، مال اليافع إلى الإخوان المسلمين فانتمى إليهم في الخامسة عشرة. وكانت الجماعة تمتدّ إلى درعا عبر المدرّسين والدعاة الدمشقيين، مما ترك أثره في ملمحٍ سلفيٍّ لأعضائها ميّزهم عن باقي إخوان سورية، بتأثير الشيخ الشهير ناصر الدين الألباني.

حين انتقل الشابّ إلى دمشق، لمتابعة دراسته في كلية الحقوق، صارت أيامه مستغرقةً بالنشاطات الدعوية والتنظيمية، وعاصر أيام ازدهار الإخوان وانكفاءين كبيرين لهم في سورية، أيام الوحدة مع مصر ثم بعد «ثورة» 8 آذار 1963، حتى دفعه التضييق على تحركاته إلى الخروج من البلاد عام 1965، دون عودة، إلى السعودية.

كانت المملكة وقتها ملجأ الإخوان في أيام «المحن»، ولا سيما المصريين والسوريين منهم. وكان يقطنها إخوانٌ من شتى البلاد، وتتردد إليها قيادات الإخوان من العالم العربيّ والإسلاميّ. وهناك وجد الشيخ سرور، القادم للتدريس في أحد المعاهد الشرعية العلمية التابعة للمفتي، مجالاً خصباً للنشاط. وبخلاف الكثير من الوافدين أعجب المدرّس الشابّ بنمط الحياة السعوديّ وقتها، لجهة بساطته وسيطرة المؤسسة الدينية على كثيرٍ من مفاصل الحياة فيه وصبغها بالطابع الإسلاميّ. وأيضاً بخلاف الكثير من لاجئي الإخوان انفتح الشيخ سرور على التأثر والتأثير في المجتمع حوله، فآمن بالمنهج السلفيّ من جهة، ولكنه صار يدعو إلى تفعيله باتجاهاتٍ حركيةٍ وسياسيةٍ من جهةٍ أخرى، تأثراً بما حمله معه من جماعة الإخوان التي أخذ يتباعد عنها تدريجياً إلى أن غادرها نهائياَ.

خلال السنوات الثمانية التي قضاها الداعية النشط في السعودية، ومنها خمسٌ في القصيم معقل الدعوة السلفية، واثنتان في الأحساء حيث تعزّز موقفه الصلب تجاه الشيعة؛ بلور منهجه وصار ينشره بين أبناء الجاليات العربية وبين السعوديين، وهنا برز أمامه الخط الأحمر. إذ كان الاتفاق بين السلطات وبين قادة الإخوان الوافدين يقضي بمحافظة الأخيرين على تنظيماتهم بشكلٍ داخليٍّ دون محاولة التأثير في السعوديين، فأُخرج الشيخ المتجاوز من البلاد عام 1973، ولكن بعد أن ترك أثراً داخلياً عميقاً في تيارٍ عريضٍ من أبناء المؤسسة الدينية فيها وغيرهم، لا يزال مستمراً حتى الآن.

في الكويت، ثم في بريطانيا فالأردن فقطر، تابع الرجل دعوته بنشاط، لقاءاتٌ فرديةٌ وجماعية، محاضرات، تنظيم التيار الذي صار ينسب إلى اسمه دون رضا منه، إصدار مجلة «السنة» الشهيرة والمؤثرة وقتها من لندن، وكتابة عددٍ من الكتب التي جمعت المنهج السلفيّ والمحتوى السياسي، وكان أشهرها «وجاء دور المجوس»، الذي أصدره في البداية باسمٍ مستعار، محذراً من الخطر الإيرانيّ ومشتقاته. وقد لاقى الكتاب رواجاً هائلاً في أجواء الحرب العراقية الإيرانية بعد أن تبنته جهتان ليستا على وفاقٍ مع مؤلفه، هما السعودية الرسمية وعراق صدام حسين.

ينافح الشيخ سرور في فضاء السلفية ضدّ جهتين؛ الأولى هي السلفية التقليدية التي «تزيّن للحاكم كل أفعاله»، والثانية هي السلفية الجهادية التي تلجأ إلى العنف، مفضلاً سلفيةً حركيةً أو سياسية. كانت أعوام أوائل التسعينات زمن انفجار الصراع بين هذه التيارات الثلاثة، على وقع دخول القوّات الأمريكية إلى السعودية بهدف إخراج الجيش العراقي الذي احتل الكويت. عندها أبرزت السلفية العلمية التقليدية أكثر وجوهها فجاجةً في التبرير للحكم، عبر شيخين اشتهرا وقتها هما أمان الجامي (وتنسب إليه الجامية) وربيع المدخلي (وتنسب إليه المدخلية)، بينما أعلنت السلفية الجهادية من أفغانستان، على لسان أسامة بن لادن، سحب الاعتراف بحكم آل سعود وبدء عملياتها في «أرض الحجاز ونجد»، فيما أعلنت «السرورية» عن استنكارها لهذا التدخل دون أن تدعو إلى إجراءاتٍ عمليةٍ ضده. ولكن السطات السعودية هي من اتخذ الإجراءات، بسجن حوالي 200 شيخٍ يتهمون بالانتماء إلى هذا التيار، بينهم دعاةٌ بارزون، وبصرف عددٍ أكبر من الخدمة. مما أورث شرخاً ما يزال مستمراً في البيئة السلفية السعودية ومؤسساتها الدينية.