إدلب.. هوامش الجحيم.. رحلة التهجير الأخيرة.. طلوع الروح أسهل

متداولة لقوافل النزوح

إنه اليوم الأخير لنا في البلدة. هذا هو الشعور السائد وراء الحديث الذي كان يدور بيننا بالقرب من المدفأة؛ كنا بضع أصدقاء بقينا لفترة تقارب الشهر نعيش في منزلي الواقع في المنطقة الجبلية من بلدة حاس في ريف إدلب الجنوبي، وذلك حين دخلت البلدة في تصنيف "المناطق الساخنة" منذ أن صارت تتعرض لقصف مكثف من طائرات روسيا والنظام وقذائفه المدفعية.

كانت البلدة وقتها أشبه بمدينة أشباح: ظلام دامس وشوارع خاوية من السكان، أكبال كهربائية مقطعة، سيارات تحمل أثاث المنازل ليلاً، أصوات قذائف تسقط من كل الجوانب، وفي الخلفية صوت المطر الذي يهطل باستمرار، مذكراً أن المنطقة تتعرض لمنخفض جوي، ثم دخان مدافئ مئة شاب تقريباً تبقوا من سكان البلدة.

عاش في منزلي تلك الفترة سبعة أصدقاء سرعان ما تقاسموا العمل المنزلي، من التنظيف إلى طهي الطعام ووضع الوقود في المدفأة.. إلى المهمة الأصعب في تأمين الحاجيات، وقد كانت تضطرنا هذه المهمة إلى السير مسافة تزيد على 11 كم، لذلك كنا نشتري بعد كل مسير ما يلزمنا لمدة أسبوع. أما لتأمين الكهرباء فقد كنا نستعمل ألواح الطاقة الكهربائية ومولدة احتياطية من أجل ضمان وجودها على مدار الساعة.

بدأنا خلال جلسة "اليوم الأخير" بالتفكير في خطط نقل أثاث المنازل على وجه السرعة، أو ما تبقى منها. في استطرادات المتحادثين، كان الحديث يصل إلى رحلات البحث عن الفطر في الأراضي الجبلية، أو التجهيز لحفلة شواء على التلال عند تفتح زهر الربيع. بعد كل دوامات الذكريات، بدأ البعض بالاتصال بصاحب سيارة نقل عن طريق الواتساب عدة مرات بسبب ضعف الأنترنت، ثم المفاصلة على السعر الذي وضعه صاحب السيارة لنقل أثاث البيت، هو 85 ألف ليرة سورية (85 دولار تقريبا)، في حين أن مثل هذا الطلب قبل أسبوع كان ب 35 دولاراً. بدأ صديقي يتأفف من الاستغلال وراح يجرب الاتصال برقم آخر، وغيره من الموجودين يحاول إقناع أخيه بجلب سيارته لنقل منزله، وثالث أطلق لسانه في أصحاب السيارات بسبب رفضهم المجيء.

 بعدها بدأنا من منزلي بتفكيك النوافذ والأبواب والغرف الخشبية ثم جمع الأغطية. في هذا الوقت كانت أكثر من 100 عائلة تقوم بتفكيك منازلها لنقلها إلى المناطق الشمالية قريباً من الحدود التركية، فالنظام لم يعد يبعد أكثر من 10 كم من البلدة. أثناء العمل وفي الساعة 2 ليلاً بدأت القذائف تسقط بشكل مكثف على البلدة، خصوصاً الأطراف الشمالية الجبلية حيث أقيم. لم يترك أحد عمله مع اقتراب القذائف منا، لا أحد يبالي.. لقد أصبح الأمر اعتيادياً، الجميع يتابع دون الالتفات لسقوط القذائف أو حتى مجرد السؤال عنها.

طلب أحد الأصدقاء جلسة استراحة لمدة ربع ساعة، في حين قام أحدهم بتشغيل أغنية رقص شعبي.. دب الحماس فيهم، وقاموا إلى الدبكة. أحدهم قام بتشغيل "بافلات" لتضخيم الصوت، ثم بدأنا بالتصفيق لتشجيعهم، فيما يتردد صوت الجار القريب المتبقي في الحي وهو يصيح: "هدول صاروا مجانين!!".

وصلت سيارة النقل، وبدأنا بتسريع العمل خشية طلوع الشمس، إذ أن طائرات الاستطلاع تخرج منذ بزوغ الشمس لترصد السيارات النازحة من أجل إعطاء هدف للطائرات الروسية لقصفها، وقد فعلت ذلك في الأيام السابقة ونفذت القصف في أكثر من 4 مواقع مأهولة في البلدة وحدها.

سلكنا الطريق الجبلي الوعر في طريقنا باتجاه جنديرس في ريف عفرين، لأن الطريق الدولي مرصود من رشاشات الطائرات الحربية، وقد قتلت وجرحت الطائرات الروسية برصاص الرشاشات عشرات النازحين من منطقة معرة النعمان وسراقب أثناء استهدافهم بشكل مباشر على الطريق الدولي.

حين وصلنا إلى "القسم الآمن" من الطريق الدولي، واجهتنا مئات السيارات تسير خلف بعضها البعض، جميعها تحمل الأثاث، بعضها ذاهب نحو المجهول. كان المشهد أكثر عبثية ورعباً من القصف ذاته، تتراكم فيه الصور بترتيب يزيد الثقل على الروح: هنا عائلة تنزل لتثبيت حملها بعد سقوط قسم منه بسبب وعورة الطريق، وهناك سيارات متعطلة على جانب الطريق، وأخرى عالقة في زحمة السير، وعلى أطراف الطرقات شباب خرجوا بمبادرات شعبية أو مع منظمات، يوزعون الخبز والأطعمة والبسكويت والعصير للمنتظرين في ذلك الحشد، الذي وصلت ذروة اكتظاظه في المنطقة الواقعة بين مدينة معرة مصرين وبلدة حزانو على الأوتوستراد الدولي، حيث يضيق الشارع ويحتجز خلفه آلاف السيارات التي تنتظر المرور.

أغلب السيارات التي كانت تنقل النازحين من نوع الشاحنات أو سيارات النقل الكبيرة، لكونها تستوعب جميع أثاث المنزل دفعة واحدة، يجلس فيها الأب والأم والنساء في "الكبين" الأمامي، فيما يتركون الأطفال والشبان في صندوق السيارة المكشوف المحمل بالأثاث. وبالطبع هناك من ينتظر في ذلك الحشد على دراجته النارية التي نزح بها، أو في سيارات صغيرة خاصة.

قرب مدينة إدلب، توقفنا عند محطة لبيع القهوة، وهناك صادفت عجوزاً أصم من معرة النعمان برفقة زوجة ضريرة، لم ينزح معهما (حقيقة وليس مجازاً) غير ثيابهما الممزوجة بالطين والماء، وعكازين يتكئان عليهما. عرفت عمريهما منهما، العجوز عمره 75 عاماً وزوجته 67 عاماً. سألت الزوجة: من وين أنتو يا خالتي؟.. ليش هيك صاير فيكم؟.. بصوتها المتهدج ردت: والله يا ابني نحن من المعرة طلعنا بثيابنا ومالنا غير الله، مقطوعين من شجرة أنا و هالختيار، وقالولنا رح يجي الجيش ويذبح العالم، قام طالعتنا سيارة وحطتنا هون. صمتت هنا قليلاً ثم تابعت: "الله يفرجها عن قريب، ما في أقسى من الواحد يطلع من بيته. طلوع الروح أسهل يا ابني".

كلماتها كبلتني. لم أعد أستطيع المتابعة في طريقي، تركت محتويات منزلي في السيارة تحت المطر، ووقفت إلى جانبهما أستشعر خروج الروح بصمت، فكثافة المشاهد التي مررت بها في الطريق، ومعرفة وجهتي إلى بيت مؤقت في جنديرس في عفرين، لم تتح لي تصور الكارثة.. مرت دقائق حائرة جاءت بعدها سيارة لإحدى المنظمات الإنسانية لتقلهما إلى مأوى خاص في منطقة سرمدا، حيث تم تأمين غرفة لهما. غمرتني السعادة كما لو أنهما أهلي، أو أن تلك النهاية أعفتني من الوقوف على الكارثة التي تجسدت فيهما!.

تابعنا سيرنا باتجاه الشمال بالقرب من الحدود التركية، هناك كانت السيارات بين الأراضي الزراعية تنتظر تأمين مأوى، إلى جانبها عائلات تحاول بناء خيام عشوائية بين أشجار الزيتون. كانت الوجوه شاحبة والتيه سمة الجميع، وكأنهم حقاَ أرواح تحاول أن تجد أجساداً جديدة تسكنها.. حتى لو كانت أجساداَ من العراء