في الملفات الستة التي أصدرتها عن محافظة الرقة، وتناولت مدن الرقة والطبقة وتل أبيض ومعدان، ومنطقتي سلوك وحوض البليخ؛ حاولت «عين المدينة» أن تقدم لمحة عن الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لهذه المدن والمناطق، والتي أثرت إلى حد كبير في سلوك أهلها ومواقفهم من الأحداث المستجدة. وحاولت أيضاً أن تعرض مواقف الشخصيات الفاعلة وآراءها في السلطة الجديدة المتمثلة في «قوات سوريا الديمقراطية» ونواتها حزب الاتحاد الديمقراطي pyd وإدارته الذاتية التي تتولى اليوم عملية توليد أجهزة حكم محلي تقول إنها ستكون مستقلة وممكّنة في تولي شؤونها.

كانت التركة التي خلّفتها داعش ثقيلة في المناطق التي طردت منها، وستكون كذلك في ما تبقى لديها من مناطق. توجب معالجة هذه التركات إطلاق برامج إعادة تأهيل للمتضررين ذهنياً ونفسياً، من الأطفال والفتية والشبان الأكبر سناً المبايعين للتنظيم، وغيرهم من المنجذبين إليه. وتوجب تأسيس محاكم خاصة مستقلة في قراراتها عن السلطة الجديدة وأجهزتها التنفيذية، تتولى محاسبة المتورطين من أبناء المحافظة في جرائم التنظيم، لأن العدالة هي الشرط الضروري الأول لتحقيق سلم أهلي مديد.

تعاني المجتمعات المبحوثة من اضطراب وانقسام فرضه الاصطفاف السياسي، اختياراً أو إجباراً، إلى جانب أي طرف من أطراف الصراع. يشعر الجميع بالتحفز والخطر، خاصة في الطرف المعارض لسلطة الإدارة الذاتية، الذي يشعر بالظلم والخذلان مرتين؛ الأولى عندما احتلت داعش المحافظة، والثانية اليوم مع الإدارة الذاتية التي تلاحق، بالفعل، كل ذي موقف سياسي مختلف معها. لا تملك القوى المعارضة لقسد -وهي ذاتها المعارضة للنظام- ما يكفي من أدوات تأثير اليوم لتعكير صفو pyd وخططه الراهنة في فعل ما يشاء، لكن افتقار المعارضين هذا افتقار مؤقت، سينقلب إلى قوة تأثير ذات وزن متى توافرت العوامل والظروف اللازمة. يجد أغلبية السكان العرب، المقيمين في مناطقهم أو النازحين عنها إلى مناطق أخرى تحت سيطرة قسد، أنفسهم مرغمين على السكوت عن جملة قرارات وإجراءات ممنهجة اتبعتها الإدارة الذاتية لأهداف سياسية، منها التقسيم الاداري الجديد شمال الرقة، بضم جزء إلى «كانتون كوباني» والجزء الآخر إلى رأس العين التابعة لـ«كانتون الجزيرة»، لتعزيز حضور المكون الكردي الضعيف عددياً قبل هذا التقسيم. وكذلك الإجراءات والقرارات الخاصة بالتعليم المدرسي ومناهجه التي لم تستقر حتى الآن. والممارسات الهادفة إلى تعبئة المجتمع العربي وشحنه بقيم ومفاهيم غريبة على ثقافته وتكوينه. فضلاً عن الشكاوى من مظاهر التمييز بين عربي وكردي، تعزز شعوراً لدى الأول أنه مواطن من الدرجة الثانية. يجب على الإدارة الذاتية أن لا تفترض استدامة انقياد السكان العرب الخاضعين لسلطتها اليوم، فهو انقياد آني فرضه توقهم إلى الأمن بعد طول خوف، وإلى النجاة الجسدية بعد حروب متواصلة سئموها، وإلى حياة طبيعية –تتيحها الإدارة فعلاً- حرموا منها تحت حكم داعش. إلى حينٍ ستتجاهل الشرائح غير المنخرطة في الشأن العام حرياتها وحقوقها السياسية، وتتغاضى عن تمثيليات إشراك المكون العربي في الحكم والإدارة واتخاذ القرار، عبر شخصيات عربية موالية للنظام سابقاً وموالية لـpyd اليوم، لا تعبّر إلا عن نفسها ولا تنشغل إلا بمصالحها الضيقة، حسب رأي أكثريات محلية من منطقة إلى أخرى.

تعاني مراكز المنطقة الحضرية من انهيار متفاوت في البنى التحتية لمنظومات الصحة والتعليم والخدمات، وانهيار الإنتاج الزراعي في الأرياف نتيجة ارتفاع تكاليفه والأضرار اللاحقة بأنظمة الري. وفي المدن ارتفعت نسب البطالة إلى مستويات غير مسبوقة خلال سنوات الحرب، مع انضمام ممتهني الأعمال الحرة الصغيرة والحرفيين إلى جيش الموظفين الحكوميين العاطل عن العمل والمحروم من الراتب.

على أهمية الخدمات من ماء وكهرباء وأعمال نظافة، وأهمية الصحة والتعليم، لا يمكن أبداً التغافل عن الشق السياسي في قضية إعادة الاستقرار في المناطق الخارجة عن سيطرة داعش، ولا التغافل عن التهديدات الوجودية التي بدأت مجتمعات عربية بكاملها تستشعرها في شمال الرقة على وجه الخصوص. قد لا يكون هذا التغافل عامل إعاقة في اليوم التالي بعد داعش، لكنه حتماً سيكون كذلك بعد أن تتلاشى المفاضلة بين داعش وسواها من الأذهان، وتبرز مظالم اليوم التالي ذاته سافرة لتولد بؤر توتر وأزمات ستعصف حينها بمحافظة الرقة كلها.