من مصائر شيوخ المصالحة في جنوب دمشق .. صورتان للشيخ أحمد البقاعي المعفى من الخدمة الإلزامية والشيخ رائد الخضراوي الهارب إلى الشمال السوري

بالمنتصف رائد الخضراوي وإلى يمينه أحمد البقاعي

تأتي مسيرة "شيوخ المصالحات"، منذ بداية الثورة حتى المصير المأساوي لمناطقهم، لتسلط الضوء على علاقة كل من الدين والسياسة أحدهما بالآخر في سعي الشيوخ لتمثّل أدوار قيادية جعلتهم يظهرون كعملاء للنظام أو كمراهقين خرْق في الحد الأدنى.

أحمد البقاعي

لم تحل حداثة سن الشيخ أحمد البقاعي "أبو ربيع" في بداية الثورة (مولود 1986) في بلدة يلدا البالغ عدد سكانها حينها قرابة 150 ألفاً، دون أن يترك أثراً طيباً في مساعدة العائلات النازحة من حمص برفقة والده الذي سقط شهيداً في معتقلات النظام على خلفية ذلك، كما كان له حضور كخطيب وإمام لمسجد أبو بكر الصديق في التشجيع على الثورة؛ حينها لم يغادر السيف يده في خطبه المجلجلة ضد النظام. شارك كذلك في معارك صد اقتحام يلدا في آب 2012 برفقة إخوته الذين سقط أحدهم شهيداً فيها، وساهم في تشكيل المحكمة الشرعية العامة متسلحاً بدراسته في معهد الفتح الإسلامي بعد الإعدادية.

لم يكن الشيخ أبو ربيع أول الخارجين لمفاوضة النظام في الأيام الأولى من العام 2014 أثناء الحصار، فقد سبقه لذلك "عمر أبو حميد" المعروف بتبعيته المطلقة للنظام، وقد استبدل ب"أبو عصام وعلي خليفة أبو صطيف" اللذين عادا حاملين بوادر المواد الإغاثية من طريق "علي الوحش" الفاصل بين يلدا وحجيرة المسيطر عليها من قبل الميليشيات الشيعية، لكن تبين أن الأمر فخ قامت الميليشيات الطائفية بعده باعتقال 1500 شخص جلهم من النساء والأطفال خرجوا من ذات الطريق بتاريخ 2014-1-5 ولا يزال مصيرهم مجهولاً.

وبسبب ضعف المفاوضين أمام النظام من جهة، وتكتم الشيخ صالح الخطيب على نتائج المفاوضات من جهة أخرى، تم إجبار أبو ربيع على الخروج للاجتماعات مع النظام حول "مشروع المصالحة". وبحجة الحفاظ على الضروريات الخمس (الدين والنفس والعقل والعرض والمال) أصبحت رؤيا الشيخ واضحة "نحن عسكرياً غير قادرين على مجابهة النظام وداعش -المتمدد حديثاً آنذاك-، وغير قادرين على تأمين قوت يوم أطفالنا، فلا بد من مخرج، ولا بأس بأن نماطل النظام في مفاوضات لا جدوى منها أساساً، والحفاظ على سنية المنطقة أمام التمدد الشيعي وعدم إفراغ المنطقة من شبابها للدفاع عنها". ولم تكن تلك إلا البداية.

وأمام تسهيلات النظام لعبور الراغبين من المناطق الثائرة إلى دمشق وعدم التعرض لهم، ومع قلة خبرة أبو ربيع في المفاوضات كان الانتقال من المماطلة إلى تبني فكر المصالحة و"الحل السوري السوري" قد ظهر في نبرة خطاباته أيام الجمعة، التي تخلى فيها عن السيف واختصت بمسار المفاوضات وما سيقدمه النظام وما يجب تقديمه، وكان أبو ربيع ممن سعى لتسليم 200 قطعة سلاح منتصف عام 2017 (الصفقة التي بقيت سراً). ومع تعالي صيحات نشطاء جنوب دمشق ضد عرابي المصالحة عموماً وضد تسليم السلاح خصوصاً، مع صمت الفصائل العسكرية، ألّب الشيوخ الحاضنة الشعبية للضغط على الفصائل لتقديم تنازلات أكبر.

بعد سيطرة داعش على مخيم اليرموك نيسان 2015، والتغير الذي أصاب أبو ربيع وشيوخ المصالحة بداية من دفع "دية" أحد عناصر النظام الذين قتلوا بطلقة قناص الجيش الحر وصلت إلى عشرة ملايين ليرة سورية، و بدعوى من النظام، طالب الشيوخ بلدات جنوب دمشق (يلدا وببيلا وبيت سحم) تشكيل لجنة مركزية مختصة في مناقشة مسار المفاوضات وإبعاد كل الكيانات الثورية من مجالس محلية وهيئات وتجمعات عن تلك اللجنة. يقول أحد المقربين من اللجنة في يلدا "كل الأعضاء الستين جاوزت أعمارهم الستين! وليس بينهم من يحمل فكر الثورة، ويعتبرون (كبارية العائلات) في يلدا" الأمر الذي سهل مهمة أبو ربيع في تمرير قرارات النظام أمام عجز الفصائل، ومن أكثر المواقف طرافة أن يعترض أحد أعضاء اللجنة على نوع العلف الذي أدخله النظام للأبقار بحجة أن (البقرات ما حبو العلفات).

باتفاقية تهجير حي القدم آذار 2018، وعلى وقع المعركة الشرسة التي خاضتها داعش ضد النظام هناك، أصدر الأخير أوامره بطمأنة البلدات أنها خارج تلك المعركة، وطلب منهم تسليمه جبهاتهم مع التنظيم، وهكذا دخلت دبابات النظام جنوب دمشق قبل أن يغادر الثوار الذين لم يكن لهم حول أمام تجييش المشايخ ضدهم، لتنطلق بهم بعد أيام الحافلات إلى الشمال السوري مع سعي الشيخ أبو ربيع إلى منع الشباب من الخروج بحجة وعود النظام بأمانهم على أنفسهم، وهكذا بقيت النسبة العظمى من أبناء بلدة يلدا برفقة البقاعي وأخويه (أبو عمر فرن قائد لواء عبدالله بن مسعود وأبو بلال العنصر في اللواء).

بعد إتمام عملية التهجير أيار 2018، اعتقل النظام العشرات أمام أنظار الشيوخ. وأمام بداية التمدد الشيعي في البلدات حاول الشيخ الفرار إلى الأمام، ملقياً نفسه وأبناء بلدته في أحضان الحزب السوري القومي الاجتماعي ومسؤوله رامي سلوم؛ ما دفع أبناء يلدا للهرب من الميليشيات الشيعية إلى ميليشيات "الزوبعة" التابعة للحزب بعد أقل من شهر من إتمام عملية المصالحة وتسوية الأوضاع، حيث سقط العشرات منهم في القلمون في مواجهة داعش.

لكن يبقى أن أعظم ما استطاع الشيخ أبو ربيع الحصول عليه من كل تلك الخدمات للنظام هو عدم سوقه إلى الخدمة الإلزامية التي ورد اسمه ضمن قوائمها التي تضم الآلاف من أبناء البلدات الثلاث.

 

 

رائد الخضراوي

التحق رائد المولود 1975 بمعهد الفتح الخاضع لسلطة المشيخة الصوفية المقبولة من النظام بعد الثانوية العامة، وتخرج منه خطيباً وإماماً لمسجد الصابرين في بلدته. ومع انطلاقة الثورة واتساع رقعة انتشارها كان رائد حاضراً بفتاويه التي حظ فيها الشباب على الانشقاق من صفوف جيش الأسد سراً بداية الأمر، ثم علا صوت خطاباته الرنانة ضد "النظام الفاجر" مع سيطرة الجيش الحر على جنوب دمشق منتصف عام 2012، وشارك في تأسيس المحكمة الشرعية العامة ولاحقاً السجل المدني، الأمر الذي رفع من رصيده كواجهة لأبناء بلدته ومتحدثاً باسمهم.

مع حصار الجوع الذي راح ضحيته أكثر من (180) شهيداً جنوب دمشق، كانت النقلة النوعية في مسيرة الشيخ الثورية انطلاقاً من "فقه الواقع للحفاظ على أرواح قرابة (200) ألف محاصر" كما أعلن وقتها، لتبدأ دعواته للتصالح مع النظام تنطلق، ثم يصبح أحد العرابين فيها برفقة الشيوخ "أنس الطويل وصالح الخطيب وأحمد البقاعي"، وقد انتقل من قتال "النظام الفاجر" إلى التصالح والتسامح مع "النظام السوري" ببساطة.

كان لابد في تلك الفترة من السيطرة على القوة العسكرية للجيش الحر ومنع اعتراضها على المصالحة والتسوية من خلال تأليب الحاضنة الشعبية ضدها، بالتناغم مع إغلاق المعبر من جهة النظام كلما أراد زيادة سقف مطالبه، تاركاً مهمة إثارة الناس ضد الفصائل لشيوخ المصالحة.

ومع تمدد "داعش" وسيطرته على عدة مناطق هناك أهمها مخيم اليرموك والحجر الأسود، وإعلانه القتال ضد فصائل الجيش الحر، وجد الشيخ رائد الفرصة مناسبة لزيادة صلته بالنظام والانتقال من دعوات قتاله إلى التجييش لقتال داعش و"ربيبتها الصغرى (النصرة)" كما يسميها؛ اضطره ذلك إلى مناصبة العداء لتجمع "لمّ الشمل" الداعي إلى إيقاف الاقتتال الداخلي والحفاظ على الشباب "كرأس مال المنطقة في وجه النظام"، وكثيراً ما تم إغلاق معبر العروبة (الفاصل بين مناطق المصالحة ومخيم اليرموك تحت سيطرة داعش) بأمر من النظام وتنفيذ رائد وشيوخ المصالحات، ليعود في الأيام الأخيرة قبيل التهجير -على وقع سقوط عشرات الشهداء من أبناء يلدا على يد داعش- إلى الموافقة على مقترحات أعضاء "لمّ الشمل" لإيقاف الاقتتال.

وفي وقت كان يُعدّ فيه المسيطر على "المعبر" مسيطراً على القرار العسكري والمدني، كان جنوب دمشق يراقب الصراع الدائر للسيطرة على المعبر الإغاثي الوحيد الذي أطلق عليه محلياً "معبر رفح الثاني"، وضمّ الصراع حينها شيوخ المصالحة ودعاتها للسيطرة على مقدرات المعبر وإيراداته المادية؛ فنجح رائد بإزاحة صالح الخطيب عن واجهة المصالحة في فترة من الفترات ليحل مكانه في اجتماعات الشيوخ بالأفرع الأمنية.

اتسمت تلك الفترة بغلاء الأسعار بشكل جنوني، وتزامنت مع تحركات الخضراوي لمنع أي شكل من مظاهر الثورة في مناطق المصالحة، وتجلى ذلك من خلال منع النشطاء من إقامة فعاليات يوم الغضب السوري وتحت تهديد سلاح "تجمع مجاهدي يلدا"، وإجبارهم على توقيع تعهد بعدم تحريض الناس على التظاهر: "أنا معكم مع الثورة بس ما بدي النظام يغضب علينا" كانت كلماته للناشطين عقب إجبارهم على توقيع التعهد، ثم محاولة منع رفع علم الثورة في تلك البلدات مراراً، لكن الغريب في الأمر -وبحسب مصادر مقربة منه- أنه "لم يكن مستفيداً مادياً من المصالحة مع النظام بالمطلق".

لم تغب عن أذهان كل من سمع بهرب الخضراوي إلى عفرين عبارته "يا حرام يلي بدهم يطلعوا حيعيشوا بخيم ويتشردوا ويتشنططوا"، حين كان يحاول إقناع أبناء بلدته للبقاء تحت سلطة النظام وتسوية أوضاعهم، وحجته "عدم إفراغ المنطقة من المكون السني لصالح الشيعة"، إضافة للاستمرار في قتال داعش في اليرموك؛ لم تتغير نوعية خطبه كثيراً بعد سيطرة النظام على بلدات جنوب دمشق، فبقيت ضد داعش و النصرة كما كانت، الأمر الذي استغله صهره حسان سعد "أبو نبيل" وصديقه قصي المصري "أبو غياث" لتجنيد أبناء يلدا في صفوف ميليشيا الحزب القومي السوري "قوات الزوبعة" التي سقط العشرات من عناصرها من أبناء يلدا قتلى في القلمون ضد داعش.

لربما كان عزله من قبل النظام عن خطابة مسجد الصابرين سبباً دعاه لاتخاذ قرار دفع مبلغ (3000) دولار للهرب من مناطق النظام إلى مناطق رفقاء السلاح الأول محاولاً "تصحيح أخطائه" عملاً "بفقه الواقع" الذي جعله شماعة لغبائه أو مهامه السرية؟، لكنه تفاجأ بردة فعل غاضبة من مهجري جنوب دمشق، الذين لم يكن لديهم القدرة على حسن الظن فيه إلا ما ندر، ما اضطره للاختفاء عن الأعين، ثم التسلل إلى تركيا كما تقول أخبار.