في ذكرى أحمد مشجع إيطاليا.. لن أشجع العرب

قبل أيام قليلة من انطلاق بطولة كأس العالم 2014 في البرازيل استشهد صديقي أحمد ببرميل متفجر على حي طريق الباب في حلب، كان آخر من تبقى من "شلّة الأصدقاء القدامى الثمانية لكرة القدم" في القسم المحرّر من المدينة. كان أحمد شابّاً وطنياً بامتياز تطغى السياسة على مواقفه الحياتية كلّها، حتى الرياضية منها، فهو يُشجّع فريق إيطاليا فقط "لأنها أهدت كأس العالم 1982للفلسطينيين" دون أن يُتعب نفسه في البحث عن مصداقية الخبر.

أشدّ ما كان يتعب الشاب في مناقشاتنا الدائمة التقاء فريق الجزائر (الفريق العربي الوحيد في كأس العالم وقتها) بإيطاليا، كان عليه أن يقارن في كل مرّة، بعد أن اقترب موعد المباريات، بين انتمائه العربي وبلد المليون شهيد وبين الطليان الذين وقفوا إلى جانب قضيتنا الفلسطينية. أيقظني ذات ليلة ليسرد لي شرحاً مطوّلاً عن عدم وقوف الجزائر إلى جانب الثورة السورية بل على العكس وقوفها إلى جانب نظام الأسد، وأنهى حديثه بالبحث عن مواقف لإيطاليا تُريح ما يعتمل في صدره.

كانت الكهرباء غائبة، ولم تكن بطاقات الانترنيت تفي بالغرض لمشاهدة المباريات، فعمد إلى شراء كرت للجزيرة الرياضية بـ 150 دولاراً عبر صديق له في مدينة حماه. استعار مولّدة صغيرة "يابانية"، ضحك وهو يخبرني أنها لن تطغى على صوت المعلق، وأشار إلى السماء "بس هدول الكلاب يتركونا بحالنا وقت المباراة" في إشارة منه للطائرات التي كانت تستهدف المدينة على مدار الساعة.

"من حق الناس أنو تفرح، كأس العالم متعة بلكي بيطالعنا من هالجو" كانت آخر كلماته قبل أن يرحل، لا أعرف كيف كان سيتقبّل خروج فريقه من الدور الأول، كل ما فعلته أني زرت قبره بعد نهاية المونديال، كذبت عليه وأخبرته أن إيطاليا أخذت كأس العالم في ذلك العام.

في المقلب الآخر كان صديقا الشلة نفسها يضعان صورهما في مدينة اللاذقية بلباسهما الأرجنتيني، منذ بداية الثورة اختارا أن يقفا مع الأسد، أذكر أن أحمد قال لي يوماً إن أحدهما كان يُشجّع الأرجنتين لأنه يقف مع الشعوب اللاتينية الفقيرة التي تتنفس كرة القدم، تلك الشعوب التي تشبهنا في معاناتها، وأبدى استغرابه لضياع تلك المفاهيم فـ "كيف لمشجع للأرجنتين أن يقف مع نظام قاتل؟". أما الآخر فقد كان بوجهة نظره كأبناء هذه الأيام، لا يعرف من الأرجنتين سوى "ميسي" الذي كان يصفه بـ "الديكتاتور"، ولهذا لم يبد أيّ استغراب من وقوفه إلى جانب الأسد.

خامسنا كان من متقلب الهوى بين تشجيع الفريق الهولندي والإسباني والبرتغالي، وقد اختار أيضاً البقاء مع الأسد كصحفي في مدينة حلب، لم يكترث صديقي بالحديث عنه، كان دائماً يصفه بـ "الوصولي"، وكان يُجيب بجملة واحدة كلما عادت بنا الذاكرة إليه "لا يمكن أن تشعر بالانتماء لأكثر من قضية".

اعتقل نظام الأسد سادسنا منذ 2013 وضاعت أخباره، كثيراً ما كان يدور على لسان أحمد أن لا "سحر فوق لعب البرازيل لكرة القدم". يربت على كتفي وهو يخبرني، افتراضاً، بأن سادسنا سيكون سعيداً في مكانه وهو يرى البرازيل تستضيف كأس العالم، فهو أكثرنا حبّاً لكرة القدم كما البرازيل أعرق فرق هذه اللعبة.

الآخران سافرا إلى ألمانيا، أحدهما "نازي" كان يقول لي مازحاً وهو يخبرني عن معرفته بكل لاعبي ألمانيا وتفاصيل حياتهم، "بيحقلو يكون بألمانيا هاد الشب ولد ألماني"، ويصف الأخير بالبلادة والكسل فكيف يمكن له الحياة في بلد "الماكينات".

أجدني أبحث عن فريق أُشجعه اليوم، لم تهزّني هزائم الفرق العربية الأربع، صور السيسي وبن سلمان وملك المغرب وأعداء الثورة السورية في تونس تطغى على مخيلتي في كل فرصة ضائعة، فتجدني أصفق لخسارتهم وأتخلى عن تشجيعهم كما أسهموا في إضعافنا وخساراتنا.

كأس عالم جديد نعيشه الآن، بعد أربع سنوات على استشهاد أحمد، توالت فيه الهزائم، فلا إيطاليا من ضمن الفرق المتأهلة، ولا بيته في حلب بات موجوداً بعد أن سيطرت قوات الأسد عليه، ولا الوطنية غدت سمة مشجعي هذه الأيام. ربما علينا أن نبحث عن فريق نشجعه في هذه الفسحة الكروية يكون مرتبطاً بقضيتنا المحقة، بعد أن تخلّى عنها العام أجمع وغابت فرق من يشعرون بالتعاطف معها عن الحضور.