حكاية من داريا: أربعون ضحية ما زالوا تحت أنقاض مبنى.. وناجٍ وحيد يناجي حجارته عن بعد

من صفحة عبادة على الفيسبوك

استطاعت كاميرات الهواتف النقالة والكاميرات المتواضعة التي كان يمتلكها الناشطون في مدينة داريا بريف دمشق إبان الحملة العسكرية التي تعرضت لها المدنية مع بداية 2013، توثيق اللحظات الأولى التي تلت استهداف أحد المباني في وسط المدينة في الثامن عشر من الشهر الأول من العام ذاته. إلا أن عدسات المصورين لم تستطع توثيق الضحايا الأربعين الذين ما يزالون يقبعون حتى الآن في الدور السفلي من المبنى الذي حولته صواريخ طائرات النظام إلى كتلة من الردم والحجارة.

شهدت المدينة في ذلك اليوم قصفاُ عنيفاً لم يهدأ طيلة الوقت، حتى أن إحصائيات محلية قالت أن عشرين قذيفة كانت تنهال على المحاصرين في الدقيقة الواحدة، من بينها الصواريخ التي دكت بها الطائرة المبنى، بينما ظلت قوات النظام تحاول اقتحام المدينة.

يقع المبنى في المنطقة بين مؤسسة الكهرباء وجامع المصطفى، حيث تكثر المباني والحواري على بعد أمتار قليلة من الشارع الرئيسي الذي يؤدي إلى إحدى ساحات المدينة المشهورة "ساحة شريدي"، والتي عرفت بعد اندلاع الثورة بساحة الحرية.

من حسن حظه أو ربما من سوئه الكبير، أن الشاب عبادة نوح ابن العائلة التي فنيت تحت الأنقاض كان في تلك الساعة خارج المبنى. كان عبادة وقتها لم يتجاوز الثامن عشرة، وبعد أن التحق بصفوف المقاتلين المدافعين عن المدينة، كان يتردد لزيارة أهله في المبنى بين فترة وأخرى.

 في المبنى كان يسكن أحد أعمام عبادة أساساً، ومع اشتداد القصف اتصل العم بأخواته وأخوته ليأووا إليه، لأن المبنى كان مؤلفاً من خمسة طوابق بدت متينة متماسكة، كما أن موقعه البعيد عن القصف الذي بدأ على أطراف المدينة مستهدفاً نقاط الثوار، يجعله آمناً إلى حد ما بالمقارنة مع أبنية سكنية في أماكن أخرى من المدينة.

جلبت كل عائلة من الأخوة والأخوات بعضاً من أقاربها، فأوى النساء وأطفالهن وكبار السن "الجد والجدة" في الطابق الأرضي لكونه أكثر أماناً، بينما حل الرجال في الطوابق التي تليه.

مع بداية القصف عرفت المدينة القذائف التي تحدث فجوة في جدار وسقف أو تدمر طابقاً وطابقين، إلا أن الصاروخ الذي قصفت به الطائرة المبنى مع غروب الشمس كان غير "اعتيادي"، وأحدث انفجاراً هائلاً حوّل المبنى خلال لحظات قليلة إلى حجارة وأشلاء لم يظهر سوى بعض منها، واختفى تحته عشرات الأشخاص من عائلة عبادة الذي لم يستطع أن يلقي نظرة وداع على أحد منهم.

قبيل استهداف المبنى رصدت عدسات الناشطين تحليقاً لإحدى طائرات النظام، وشاع أنها من نوع ميغ 23، كما تمكن بعض الأهالي من رؤيتها، لم تكن تحلق عالياً، إذ لم يكن الثوار وقتها قد تسلحوا بأكثر من بنادق فردية.

لم تفلح المحاولات المتكررة التي تطوع لها عدد من الأهالي ومسعفون من المستشفيات الميدانية الذين عملوا في تلك الساعة تحت هدير الطائرات وحمم القذائف، في رفع الأنقاض لإخراج الأجساد من تحتها، واستطاعوا فقط جمع بعض أشلاء الضحايا الذين كانوا في الطوابق العلوية.

تكررت غارات الطائرات على ذات المكان، ربما أراد الطيار التأكد من أن أحداً من الأطفال والنساء لم يخرج من تحت الأنقاض. ومع الغارات المتكررة تحول المبنى إلى كتلة صلبة من الحجارة، لم تستطع الآليات التابعة للمجلس المحلي بعد أن هدأ القصف، أن تفرز الأشلاء عن الحجارة.

ومع غروب شمس كل يوم كان عبادة يقف أمام المبنى لساعات طويلة بلا حراك ولا كلام، ينظر بعينين تملأهما الدموع، يقف بخشوع وكأنه يؤدي صلاةً لأرواح العائلة، وكأنه يناجي حجارة المبنى أن تلفظ بعضاً من أجسادهم. طيلة فترة الحصار التي استمرت حتى عام 2016 كان عبادة يقف في تلك الساعة على نفس الهيئة.

ذات مرة عُلق على ركام المبنى المنهار صورة للشهداء الذين ضمهم، كانت تلك مبادرة من أحد أصدقاء عبادة الذي كان يلح على إعادة محاولة إخراج الضحايا ليكون لهم قبور بين الشهداء.

 لم يكن عبادة يفوت أي فرصة لعرض قصته على المسؤولين في المدينة لإعادة النظر في إمكانية استخراج جثث الضحايا. عندما دخل الوفد الأممي إلى داريا في نيسان 2016، تحدث عبادة مع رئيس الوفد "خولة مطر" للتدخل كوسيط مع النظام السوري حتى يُسمح للأهالي بسحب الضحايا من تحت الأنقاض الذين مر على قتلهم أكثر من ثلاثة أعوام، إلا أن طلبه بقي "قيد الدراسة".

وتقول الإحصائيات المحلية بأن إجمالي عدد الضحايا الذين ضمهم المبنى حوالي 54 ضحية، نجحت فرق الإنقاذ في انتشال عدد منهم ممن كانوا في أحد أطراف القبو السكني، إلا أن 40 آخرين ما زالوا تحت الأنقاض.

 ظلت صورة الضحايا معلقة لأشهر طويلة على حطام المبنى، حتى أصبحت كشاهدة القبر التقط عبادة بجانبها ألبوم صور، اتخذ منها صوراً لخلفية هاتفه وحسابه على الفيسبوك والواتساب، وأرفقها مع كل منشور على صفحته الشخصية في فيسبوك، وكان خلال ذلك دائم الرثاء لذويه والتضرع إلى المسؤولين بأن يعيدوا محاولة إخراجهم من تحت الأنقاض، ولكن ضعف الإمكانيات حال دون ذلك.

 تلاحقت الحملات العسكرية على داريا طيلة خمس سنوات، وحتى الأيام الأخيرة قبل ترحيل من تبقى من أبناء المدينة، كان عبادة يقوم بزياراته اليومية إلى المبنى ويقف طويلاً على مناجاته. لم يصرخ يوماً. كان دائماً هادئاً يطيل الصمت. قال لأصدقائه عندما كان يصعد على متن باص التهجير "ربما منكم من سيلتقي بعائلته عندما يخرج، أما أنا فإنني أترك عائلتي وأمضي، حتى أنني تركتهم بلا قبر".

 ست سنوات مرت على مغادرة داريا، ولا يزال عبادة يشاهد صور حطام المبنى، يناجي حجارتها وينظر إليها صامتاً. ومع كل عام يمر يعيد عبادة نشر صور وفيديوهات انهيار المبنى على حسابه في فيسبوك، مع مرثية يناجي فيها أحزانه: "الركام أعمى بصري وصمّ سمعي وأبكم لساني.. أريد دفنهم بمكان يليق بهم.. يليق بحجم الحزن الذي يجري بداخلي وكفى..". وفي محل نزوحه في شمال غربي سوريا ضعف بصر عبادة وحوّل مؤخراً للعلاج في تركيا.

 تقول الأخبار القادمة من داريا أن المبنى لا يزال على حاله، إلا أن جرافات البلدية عملت على إزاحة الحجارة عن الطريق ورفعها فوق ركام المبنى، كما أن أحداً لم يجرؤ على الاقتراب أو الحديث علانيةً أن مجزرة قبل أعوام حصلت هنا، وأن الضحايا تحته لا تزال تشهد.