المجانين... "وجهاء دير الزور" السابقون

ما زال الحديث عن الجنون حاضراً في الجلسات الشعبية لسكان مدينة دير الزور، ونوادر المختلين عقلياً تأخذ مكانها القديم كفاصلٍ منشّطٍ في الحياة، وتعدّ معرفة آخر أخبارهم من مميزات "الشخصية الديرية". لكن هذا الحديث أصبح ينتهي الآن بتأكيد الجلاس لبعضهم أنهم هم من صاروا "المهبّلة" أو "المهابيل" بعد كلّ الذي مرّ عليهم، ولم تعد مدينتهم في حاجةٍ إلا إلى سورٍ لتصبح عصفورية.

من المظاهر المألوفة في محافظة دير الزور على العموم منظر المشرّدين من المختلين عقلياً. ولكلّ قريةٍ أو مدينةٍ "مهبولها" الذي تشكل أفعاله وأقواله مادةً للتسلية وتستعمل شخصيته للسخرية. ويصل الأمر في مدينة دير الزور إلى اختصار الكثير من الحالات أو التصرّفات بشخصية أحد المجانين المعروفين وإسقاطها على الشخص موضوع السخرية، حتى تحوّلت أسماء بعض هؤلاء إلى صفةٍ أو نعتٍ يُختزَل بإطلاقه الكثير من الكلام. على أن الأهالي ينقسمون في معاملة المختلين بين محسنين يخصّصون لهم مبالغ يطوف المجنون لتحصيلها في يومٍ محدّدٍ -غالباً ما يكون الخميس- بالإضافة إلى وجبات الطعام واللباس، وبين من يضرب المختلين أو يرشقهم بالحجارة، وخاصّةً من اليافعين. ويمتزج العنف ضدّ المجانين، في كثيرٍ من الأحيان، بالاعتقاد أنهم أصحّاء لكنهم يتخذون الجنون حيلةً، أو أنهم يملكون أموالاً طائلةً جمعوها من الناس. لكن ما يطلبه الجميع هو التسلية التي يمنحها وجود المجانين، إذ يحرّض المتجمّعون في المحلات أو الحواري المجنون على سبّ الرفاق أو الدعاء لهم أو الغناء أو الكلام عن علاقاته الغرامية التي يعتقد الكثير بصحتها.

انتشرت، منذ أكثر من عقدٍ، صورةٌ تجمع وجوه مشاهير "المهابيل" في المدينة، وقد كتب عليها صاحب الفكرة "وجهاء دير الزور". اقتناها الكثيرون، وعلّقها البعض في سياراتهم ومحلاتهم، بسبب ما تؤديه من رسالةٍ مزدوجة؛ فمن جهةٍ تحمل السخرية من اجتماع هؤلاء في صورةٍ، ومن جهةٍ أخرى تغمز من قناة الوجهاء المحليين الذين "لم يقصّر بهم" المصوّر كما كان يقال. وفي وقتٍ قريبٍ من زمن انتشار الصورة، وفي لحظة تعدّ تاريخيةً في عمر المدينة الحديث، فتح أحد المختلين لقريحته العنان في شتم بشار الأسد لسببٍ مجهولٍ، وسط شارع حسن الطه، ليخلو الشارع المزدحم من المارّة بسرعةٍ قياسيةٍ، وسط حيرة الباقين فيه. أما في حالاتٍ أخرى وسط الحواري فكثيراً ما يستعمل المجانين التجديف كسلاحٍ ضدّ من يعتدي عليهم، مستعطفين بذلك كبار السنّ لنجدتهم.

اختفى العديد من المجانين السابقين، ومات بعضهم وهم شاردون على الجبهات قنصاً برصاص عناصر جيش النظام أو بسبب القصف ثم قتلاً على يد تنظيم الدولة الإسلامية منذ ظهور خلاياه في المدينة، بعد عمليات "تحقيقٍ" توصلوا منها إلى أن المجانين الذين يعتقلونهم جواسيس، ما أقنع الكثير من الأهالي مبكراً بتخلف عناصر التنظيم وجهلهم وتعنتهم. على أن المحليين من العناصر تعاملوا مع المجانين بطريقةٍ أخرى، فلجأوا إلى اعتقالهم وضربهم لزجرهم عن بعض ممارساتهم، كالتجديف عند خروج المصلين من الجامع، أو التدخين عند مرور سيارة "الإخوة"، الأمر الذي كان يصدم المهاجرين في البداية، ويدفع غالبية المارّة إلى التواري عن الأنظار بسبب افتراض بعض الأمنيين وجود أشخاصٍ يحرّضون المجانين على افتعال هذه التصرّفات. وقد ترجم أحد الأمنيين ذلك بفتح النار على شابٍّ، قبل أن يهرب، كان على مقربةٍ من مجنونٍ يجدّف.

اشتهر مجانين جدد في الأحياء المحرّرة من قبضة النظام، وراحت تنتشر مقاطع فيديو تسجل أحاديثهم ونهفاتهم، إلى جانب انتشار مقاطع لأصحّاء اعتُبروا في مراحل معينةٍ من الوجوه الثورية. لكن الكثير من الشباب لا يميّزون اليوم بين مقاطع هؤلاء المجانين وأولئك الأصحّاء، فكلاهما مادةٌ للتسلية. وعلى الرغم من أن الناس لم يعودوا يبدون حماساً كبيراً لحضور المجانين، إلا أن بعضهم ما زال ينتظر أبو سليمان -أشهرهم اليوم- ليبادره بالقول "سجن" فيردّ أبو سليمان "بدني" [مدني] ، أو ليمازحه قائلاً: "أنت أنت الدمّرتنا".