علي... اللاجئ وحيداً

بملامح الشغب التي يحملها، رغم أنه على كرسيّه المتحرك بساقٍ مقطوعةٍ وأخرى غطاها الجبس، كان يجلس قربي وأنا أستمع إلى قصة أبي أحمد. وحين نظرتُ إليه بعد انتهاء الحديث قال: «أنا بحكيلك».

علي من حيّ مساكن هنانو الذي يقع في الجهة الشمالية من مدينة حلب، والذي يُعدّ من الأحياء الحديثة. تحرّر الحيّ في تموز 2012 من قبضة نظام الأسد، فبات من أكثر المناطق عرضةً للاستهداف بالقذائف وهجمات الطائرات. كان علي يعيش في أحد البيوت «العربية» التي انتشرت بشكلٍ مخالفٍ لتشكل طوقاً حول الحيّ، نظراً لأزمة السكن والفقر المنتشرة في المدينة.

يحكي: في عام 2013 كنت ألعب مع أقراني. كنتُ وقتها في العاشرة من عمري. أصبتُ بقذيفةٍ استهدفت الشارع الذي كنا نقطنه. عندما أفقت وجدت نفسي في مشفى «البيان» بحيّ طريق الباب، بساقٍ واحدة. أراد الأطباء إرسالي إلى تركيا ثم عدلوا عن الفكرة وأرسلوني إلى مشفى «عمر بن عبد العزيز» في حيّ الفردوس، حيث قاموا بإجراء عمليةٍ لي في الساق الثانية. وأعطتني إحدى الجمعيات الخيرية ذلك الكرسيّ (أشار إلى كرسيٍّ غير الذي يجلس عليه).

أخذني جدي معه إلى معرتمصرين في ريف إدلب، لقد نزحنا إلى هناك. لم أعرف أنه جدي إلا منذ وقتٍ قريب، كنت أناديه «أبي» وأنادي جدتي «أمي». بقيتُ سنةً كاملةً في الفراش، وكانت جدتي تعتني بي. تزوج جدي منذ سنةٍ تقريباً، وعندها قالت لي خالتي: «هذا الرجل جدك وليس أباك، وهذه المرأة جدتك وليست أمك». صرتُ أبكي، وحين سألتها عن والدتي اكتفت بالصمت!

جدي «الظالم» كان يعاملني بشكلٍ سيئ. وحين كنت أسأله عن والدي كان يجيبني: «أنا أبوك». وحين كنت أطلب منه أن يعالجني كان يقول: «ليس هناك أمل، أنت ما بتطيب». وحين كنت ألح عليه وأخبره بأنني لا أستطيع تحريك ساقي الثانية يجيبني: «ما لك علاج إلا بتركيا، وأنا مو فاضيلك». منذ تزوج لم يعد يسأل عنا.

قررتُ أن أهرب من بيت جدي لأجد علاجاً لساقي. خرجتُ إلى الشارع على كرسيّي المتحرك وصعدتُ مع صاحب إحدى السيارات. أشفق عليّ فأخذني معه وأنزلني في قرية حزانو القريبة من معرتمصرين. أمضيت يومي في الشارع. كان الوقت شتاء، وعندما نزل المطر طرقت باب أحد البيوت. أدخلني أصحاب البيت واحتووني لمدة أسبوعين، ثم طلبت منهم إيصالي إلى معبر «باب الهوى» الحدودي مع تركيا. كل ما كنت أريده هو أن أعالج ساقي، لا سيما بعد أن قال لي جدي إنه لا علاج لها إلا في تركيا.

وصلتُ إلى المعبر، وطلبتُ من المسؤولين هناك إدخالي، ولكنهم رفضوا لأنه «ليس لديّ مرافق» وليست معي هويةٌ للدخول. كان رجال المعبر يطعمونني ويبقونني عندهم خلال النهار، وفي الليل كنت أنام في كراج. حاولتُ الدخول إلى المشفى القريب من المعبر، ولكنهم لم يستقبلوني أيضاً. أمضيت عشرة أيامٍ هكذا داخل القسم السوريّ، إلى أن أدخلوني إلى تركيا بعدما أرسلوا معي مرافقاً باعتباره «أخي».

أوصلني المرافق الشاب إلى الريحانية منذ نصف سنة، وهناك أدخلوني إلى ميتمٍ بعد أن سمعوا قصتي. بقيت في الميتم إلى أن قام سائق دار السلامة في كلّس -حين سمع بقصتي- بجلبي من الريحانية وإيوائي في هذا المكان. منذ ثلاثة أسابيع وأنا هنا. قاموا بالإجراءات لمنحي «الكيملك»، وأخذوني إلى مشفىً في مدينة عنتاب. إنهم يقدمون لي ما أحتاجه. قام الأطباء في عنتاب بتجبير ساقي المصابة لإعادة كسرها، وسيجرون لها عملية. كل ما أريده أن أستطيع الوقوف عليها. في الدار يعاملونني جيداً، أنا من أشاغب وأريد أن ألعب بصوتٍ عالٍ.

أسأله: «هل ستعود إلى بيت جدك بعد العلاج؟» فيجيب: «لو يعطوني ملايين ما برجع... ما بحبون».

«هل ستبحث عن أمك وأبيك؟»، أسأله فيقول: «لا أريد أن أعود إليهما، تركوني وما سألوا عني».