صنم دير الزور.. برميل إعادة الإعمار وأموال داعش

يبدو كجزء باقٍ من نيزك ضرب دير الزور، كتلة لامعة وصقيلة، تختصر دمامتها بؤرة الخراب الذي تتمركز في وسطه، بينما تتسع دوائر الدمار الشاحبة حوله في خواء كان يوماً مدينة.

إنّه دالّة حكم آل الأسد، أو وفق مزيج من تعبيرات اللغة السياسة السورية، لما بعد الثورة والحرب والإبادة، فإنّه "الحيوان المؤسس".

 أعاد نظام بشار الأسد نصب تمثال أبيه وسط دير الزور، في مشهد أريدَ له أن يكون كرنفالياً، ليوحي بانتصاره على المدينة، التي يقول البنك الدولي إنّها تتصدر قائمة نسب الدمار في سوريا، وبينما يتشدّق رهط مؤيدي النظام وشبيحته في الدير وغيرها برمزية "عودة الدولة"، عبر تشخيص طاغيتها الدموي المؤسس لوحشية قوننة القمع والفساد بتمثاله الضخم، فإنّ الحرب على دير الزور تتواصل بضراوة متفاقمة، عبر تحوير هذه "الدولة" إلى واجهة مخاتلة لمشروع القضاء على هوية دير الزور الذي تشنه الأذرع الإرهابية الإيرانية.

لكن هذا ليس ما يشغل بال النظام وشبيحته الذين يتلمظون بـ"انتصار" عودة حافظ الأسد، كجثة نخراء من الجص الفارغ، حتى لوكان وسط خرائب خاوية.

احتفى إعلام الشبيحة، الرسمي والاجتماعي، بعودة مؤسس الدولة الأسدية إلى دير الزور، في طقس انتقامي من محافظة لطالما اعتبرها حافظ الأسد جغرافياً متمردة، لا تستحق التنمية -على هزال هذا المفهوم وبدائيته في مفاهيم البعث الاقتصادية- مع أنّها تقدم أكثر من ربع اقتصاد سوريا برمته. وما حدث فعلاً، هو أنّ التمثال الذي كان أهل الدير يسمونه "الصنم" و"هبل"، حتى قبل قيام الثورة، أخرج من سباته المذعور الذي دام نحو سبع سنوات، وأعيد طلاؤه بلون مغاير لأصله ذي الطابع العسكري، وأقيمت له قاعدة جديدة في مكانه الذي كان يعرف بدوار السبع بحرات، ووضع عليها، في احتفال أشبه بـ"المسيرات الطوعية"، التي كان السوريون يسحلون إليها قسراً، على مدى 47 عاماً من حكم الأسدين.

اللافت في أمر هذا الاحتفاء، أنّه يمثل احتضاراً جديداً لعلاقة نظام آل الأسد بالسوريين عموماً، لجهة عدم قدرته على الخروج من هوس الصنمية الذي يستبد بوعيه السياسي، ما يجعله يعيد تكرار نموذجه في كل مرة يثبت فيها أنه فشل في إنتاج آليات بقائه "الأبدي" الآمن، تحت شرط متكرر أيضاً، لقسر الناس على إظهار الموافقة على هذا "البعث"، مع إدراك متبادل لطرفي معادلة القمع هذه أنّ كل ما يجري هو مجرد مسرحية متخمة بكذب، أشبه ما يكون بالاعترافات الجاهزة التي تنتزعها أجهزة مخابرات الأسد من المعتقلين تحت التعذيب.

 ومالم يكن يسير وفق هذه الآلية، فسيجد مساره لمواجهة الصيغة البديلة لنظام الأسد، وهي الإرهاب المباشر والعاري. والواقع أن طباق التعذيب والإرهاب كان حاضراً بقوة في رحلة عودة "الصنم" من مخزن متحف دير الزور إلى الساحة القريبة منه ، فالأمر كله أنجز برعاية شركة "القاطرجي" المصنّفة دولياً على قوائم الإرهاب، باعتبارها شريكاً لتنظيم "داعش" في تجارة النفط، وتبييض أموال التنظيم الإرهابي أيام كان يحاصر ديرالزور، ويميت سكانها جوعاً وعطشاً.

لم تكن عملية تهريب "هبل"، الذي بات الآن "صنم الحيوان الأب"، في أوائل حزيران عام 2011، لإنقاذه من سبعة آلاف متظاهر تجمعوا لتحطيمه، بعد استشهاد الفتى معاذ الركاض (14 عاماً) برصاص قوات الأسد- تحتاج إلى "تقدمة" من أحد، ولا إلى شريك وسيط بين النظام و"داعش"؛ فكلاهما لم يكن موجوداً، حين سحق -وأحرق- المتظاهرون تمثال باسل الأسد في الساحة العامة لدير الزور -واسمها المحلي ساحة التكاسي- في نيسان من ذات العام، أو حين لفّ متظاهروا الميادين تمثال الأسد بخرطوم سيارة إطفاء وسحلوه في مدينتهم.

الأمر الآن في صورته الفجائعية، أنّ التمثال، وهو الوحيد الباقي في الجغرافيا التي لم يكن حافظ الأسد يحبّها، بات برميل "إعادة الإعمار" الذي ألقاه بشار الأسد وسط المدينة المدمرة لـ"بعث" هوس الأبدية الذي تطاير حطاماً في ساحة التكاسي.