المفاتيح في إدلب.. مهنة للناسخ وكلمة سر الذكريات للنازحين

بعدسة الكاتب

تعلّق السوريون في العقد المنصرم بتفاصيل لم تكن تعني لهم الكثير من قبل، غير أن الخسران يمنحُ للأشياء معنىً إضافياً، ويعطيها أبعاداً أكثر عمقاً. فالمفاتيح في جانبها الوظيفي تعني تكثيفاً لنهاية سلسلة من الإجراءات والعمليات التي من خلالها "يحرز" الناس أملاكهم ويقفلون على حيواتهم الخاصة؛ ويحتاج إنتاج هذه الأداة إلى حرفيين يتعاملون معها بدقة متناهية ولكن كذلك بأمانة وتثبّت، أما اقتناؤها في إدلب فيخرج في كثير من الحالات عن هذا النطاق، خاصة حين تكون بيد مقتنين يحبون فتح باب الذكريات والأمل بالعودة بها. 

حرفة ومصدر دخل

في محل صغير لا تتجاوز مساحته ثلاثة أمتار قبالة دوار المتنبي وسط مدينة إدلب، يعمل الشاب أبو سعيد بنسخ المفاتيح وإصلاح الأقفال. شكلت هذه المهنة مصدر رزق لعشرات العاملين فيها في مدينة إدلب نتيجة الكثافة السكانية العالية، ما دفع أبو سعيد لتعلمها منذ ثلاث سنوات.

بنظرة المحترف يتفحص الشاب مفتاحاً بين يديه، يقارنه بالمفتاح الأصلي، ثم يبدأ بتقليم أسنانه وحفِّها بمبرد حديد يدوي حتى تتساوى الأسنان بين المفتاحين، ويصبح الجديد جاهزاً للاستعمال. يُسلمه للزبون مقابل ست ليرات تركية تزيد أو تنقص حسب نوع المفتاح.

يقول أن مهنتهم من المهن اليدوية القديمة التي تعتمد على براعة العامل، وتعتبر الأمانة عنصراً أساسياً لنجاحها لأن الحرفيّ قادر على فتح أي قفل أو باب، وهو ما يدفعهم للتحري عن الحالة التي تعترضهم في كثير من الأحيان قبل فتح القفل.

لا تخضع المهنة للرقابة من أي جهة حكومية ولا تحتاج إلى ترخيص قبل مزاولتها، لذا فقد ترى صاحبها يعمل ضمن كشك صغير على حافة إحدى الطرق أو ضمن محل خاص ببيع الخردوات؛ المهم فيها تَوفُّرُ آلة النسخ وبعض الأدوات اليدوية والعامل الحاذق، بحسب أبو سعيد.

 أبو محمد عامل آخر ورث المهنة عن والده الذي ورثها عن جده، ويجدها اليوم "مصلحة قادرة على كفايته رغم صعوبة الظروف الاقتصادية".

ينظر أبو محمد للمكنة التي أمامه والتي يتجاوز سعرُها 900 دولار، ويتذكر كيف كان يعمل والده على مكنة بدائية يحركها بقدمه أثناء العمل.
تغيرت المكنات التي يستعملها ناسخو المفاتيح خلال العقود الماضية مع تطور المفاتيح نفسها، وانتشرت أنواع جديدة أكثر تعقيداً مثل "الخريطة"، فوجد أبو محمد نفسه مضطراً للتماشي مع الحديث منها واقتناء الأدوات الخاصة بها ليكون قادراً على تلبية احتياجات الزبائن والاستمرار بعمله.

يقول "لكل نوع من المفاتيح مكنة خاصة به، وهناك مكنة شاملة يبلغُ سعرها نحو ثلاثة آلاف دولار" لكنه عاجز عن تأمينها في الوقت الحالي.

يعتمد أبو محمد في نسخ المفاتيح على خامات من المفاتيح الجاهزة والتي سُكبت بشكل كامل دون حفر أسنان بها، لتكون مهمته اختيار المفتاح المناسب وحفر أسنان تتناسب مع المفتاح القديم، أما في حال كان المفتاح ضائعاً فيجب على أبي محمد فك القفل وإخراج الأجزاء الداخلية بالكامل وتصنيع مفتاح يتناسب معه.

يعتبر فتح الأبواب المغلقة والسيارات والخزنات الحديدة من صلب مهنة أبو محمد؛ لكنه يطالب الزبون بمجموعة من الإثباتات قبل أن يقوم بالعملية، كإثبات أنه صاحب السيارة أو المنزل أو إحضار شهود على ذلك وإبراز الهوية الشخصية.

 مفتاح الذكريات

 لا يعتبر المفتاح أحد الأدوات الأساسية التي نستعملها بشكل يومي لحفظ أغراضنا فحسب، بل يتعداها في كثير من المواقف ليكون مفتاحاً لصندوق الأماني والذكريات.

مع كل جلسة للذاكرة تقلب فاطمة العمر (شابة مقيمة في إدلب ومهجرة من ريف حماة) مقتنياتها تقف عند كل واحدة منهن لحظات، تستنهض ما بقي في مخيلتها من حكاياتهن، ثم تنتقل لأخرى. وحده مفتاح منزلها الذي حملته معها حين تركت بلدتها منذ سبع سنين يوقف الزمن بين يديها، تتأمله لفترات طويلة، يعيدها للحظة التي خرجت فيها من بيتها؛ كانت تظن أن غيابها لن يطول فرتبت أغراضها في خزانتها الخاصة، أقفلت الخزانة وحملت مفتاحها ومفتاح المنزل معها.

تعاقبت السنين ولم تعد فاطمة إلى منزلها، لكنها احتفظت بمفتاح لبيت يسكنه غيرها اليوم، عبث الساكن الجديد عبث ذكريات فاطمة وغيّر معالمه، لكن وجود المفتاح معها جمّد ذكرياتها عند لحظة تركه ولن يتمكن ساكن البيت من التدخل بهذه الذكريات، هي وحدها من يملك مفتاحاً يمكنها من استعادة لحظات حياتها في منزلها في أي لحظة تريدها.

فاطمة واحدة من نازحين كثر مازالوا يحتفظون بمفاتيح منازلهم التي هُجروا منها منذ سنوات رغم يقينهم باستحالة عودتهم القريبة، أو استحالة وجود المنزل نتيجة تهدمه بقصف جوي.

 تتشابه حالة التهجير السورية مع الفلسطينية في كثير من المفاصل، فالوعود التي سمعها السوريون بداية تهجيرهم مشابهة للوعود التي تلقاها الفلسطينيون، والتي تتحدث عن عودة قريبة لمنازلهم، لكن العودتين لم تتحققا حتى الآن. وقد أثرت رمزية المفتاح الفلسطيني بالسوريين نتيجة قراءتهم ومشاهدتهم لكثير من الأعمال الأدبية والدرامية التي حملت بين طياتها تلك الجزئية.

يحتفظ بكار حميدي بمفتاح منزله الذي هُجر منه في سهل الغاب بريف حماة منذ ثلاث سنوات، يرى أن وجود مفتاح بيته ضمن حزمته الجديدة يمنحه أملاً بالعودة إلى قريته وإن طال الزمان.

 بينما لا يعلم إبراهيم حاج أحمد الناشط الإعلامي من ريف حماة، حقيقة السبب الكامن وراء احتفاظه بمفتاح بيته، فقد تهدم البيت بشكل كامل بعد خروجه منه نتيجة غارة جوية، لكن قوة يدعوها بالخفية أجبرته على الاحتفاظ به: "حاولت أن أتخلص منه وأرميه أكثر من مرة، في اللحظة الأخيرة كنت أفشل"، فيعيد ضمه لقائمة مفاتيحه الجديدة ويتعايش مع وجوده.

 قد يخطئ أحياناً ويخرجه ليفتح باب منزله الجديد فذاكرة أصابعه ما زالت تحتفظ بملمس مفتاح بيته القديم رغم مغادرته منذ ثلاث سنوات، يبتسم حينها ويتابع فتح بابه وكأنه قد عرف السبب الذي يمنعه من التخلي عنه "إنها الذاكرة" ولا نستطيع دفن كل الذكريات بتلافيف الدماغ، بعضها يرفض الاختباء ويصر يومياً على الخروج بطريقة ما.

 فاجأني حسن كنهر وهو شاب من مدينة كفرنبل، حين سألته إن كان مازال محتفظاً بمفتاح بيته، أرسل صورة المفتاح قبل أن يجيب على رسالتي، أخبرني أن المفتاح دائماً في جيبه، يصفه بأنه "شعرة معاوية" التي تربطه بمدينته ولا يريدها أن تنقطع. 

لم يحتفظ حسن بمفاتيح بيته فقط، بل احتفظ بكثير من مفاتيح بيوت الجيران التي أودعوها لديه حين نزحوا من مدينتهم وبقي فيها على أمل أن يتفقد منازل الحي كل فترة، قبل أن ينزح هو الآخر وتدخل قوات الأسد إلى المدينة. يقول "هناك مشاعر واحدة لدى الجميع تجاه المفتاح، وكل فترة يمر أحد جيراني القدامى ويطلب مني مفتاح بيته رغم مضي أكثر من سنتين على احتلال قوات الأسد للمدينة وسرقة أبوابها وشبابيكها وبيعها في محلات الخردة بمناطق النظام".

 بينما كان لمحمود سويد قصة أخرى مع مفاتيح منزله، فقد تعرض منزله للقصف أثناء إقامتهم به في مدينة كفرنبل، وتمكن الدفاع المدني من إخراج محمود وعائلته من تحت الركام وعاش لاحقاً في بيت مستأجر، إلا أنه احتفظ بمفتاح منزله خلال تلك الفترة رغم مشاهدته لركام منزله بشكل يومي، وحين نزح عن مدينته حمل المفتاح معه ليكون رفيق نزوحه. يقول "المفتاح يشكل عندي حالة من الحنين للماضي، لليوم الذي كنت أملك فيه منزلاً ولا أتنقل من منزل للآخر كما يتنقل مفتاحي اليوم من حقيبة إلى أخرى."

 يتفق آخرون مع جزئية ارتباط مفتاح النازح بذكرياتهم لكنهم يرون أن تمسكهم به يضيف حقاً آخر من حقوقهم التي فقدوها؛ وهو حق الحصول على منزل آمن تحتاج مفتاحا لدخوله بعيداً عن قماش المخيمات.