المسبحة رائحة البلاد.. وصناعتها مهنة جديدة يتعرف عليها الديريون في أورفا

مثّلت صناعة "المسابيح" في تركيا أحد أبواب العمل التي طرقها السوريون عموماً، والديريون أصحاب الهوس فيها خصوصاً، وراحوا يتعلّمون أنواعها وطرق تصنيعها حتى تنبهوا لضرورة تعلّم تصنيع خامات المسابيح، والذي يُعتبر أهم أسرار "الصنعة".

لطالما عرفت ديرالزور المسابيح من دمشق وحلب، واستوردتها من هناك، أو من خارج البلاد حين يأتي بها الحجاج كهدايا للمعارف والأقارب، أو موروثة عبر الأجيال دون معرفة صانعيها. وفيما عدا تلك التي كانت تُصنع من نوى الزيتون أو التمر في سجون النظام، لم يُذكر أن أحداً من أبناء دير الزور قد عمل في صناعة المسابيح.

وفي أورفا التركية يسكن غالبية أهالي المنطقة الشرقية من سوريا، حيث تجاوز عدد السوريين فيها 450 ألفاً، ويُشكّل الديريون النسبة الأكبر بينهم بتعداد يتجاوز 150 ألفاً، ويعتبر هؤلاء شريحة مستهلكة للمسابيح، خاصة المسبحة ذات الثلاث وثلاثين حبة الخارجة من العباءة الصوفية، والتي لم تعد تُضفي طابعاً دينياً على حاملها، بل تعدى الأمر لتكون مُكمّلاً للباسٍ ما، كالجلابية أو العباءة الحَبَر، يحملها الرجال والنساء (بحبات أكثر) شيباً وشباباً يساراً ويميناً، ويمكن وصفها من ضمن التقاليد والسمت، وفي الغربة من (ريحة البلاد).  ويتباهى الناس فيما بينهم بنوعية المسبحة، لونها وجودة أحجارها والحلية المعلقة على المئذنة (الشرشوبة)، والتي قد تكون من الفضة في بعض الأحيان.

اليوم أصبحت صناعة ذلك التقليد قريبة من الديريين إلى أبعد حد، فبعد محاولات حثيثة استطاع أبو محمود التوصل إلى طريقة إعداد الخامة، وافتتح ورشة خاصة به لطبخ الخامات وتصنيع المسابيح، كما استطاع أبو بسام من التوصل للسرّ أيضاً، وافتتح ورشته الخاصة بالشراكة مع الحرَفي أحمد التركي، والخامة حجر كبير بألوان مختلفة بعضها ممزوجة، يتم صناعته بخلط مواد سائلة وأخرى جافة على شكل بودرة، ومن ثم طبخه وشيّه بالفرن على عدة مراحل حتى يتحجر.

أخذت الورشتان تُوزعان الخامات في أورفا التي تجاوز عدد ورشات خراطة المسابيح الديرية فيها العشرين ورشة. يقول رضوان، الذي يعمل مع أبو بسام في تصنيع المسابيح وتسويقها: "نحن نوزّع الخامات داخل أورفا. ويعتمد السوق التركي على خامات أضنة التي يشتهر فيها الحلبي فارس بيضون والمارديني ناصر فيدان بصناعة الخامات، ونُسوّق المسابيح في إسطنبول ومرسين وأنقرة وأضنة وقونية، حيث تجار التصدير إلى الخليج والعراق وإندونيسيا وماليزيا".

عن طُرق التصنيع يتحدث رضوان عن نوعين: "الحجر الخام الذي نقوم بصناعته يُدعى (كهربار)، يتمّ تقطيعه بمناشير كهربائية إلى قُضبان على شكل موشور قاعدته مربع، تُثقب بعدها طولياً. أما تشكيل الحبة (خراطتها) يتم بطريقتين، آلية ويدوية، ومن ثم تذهب إلى مرحلة التصفير أو التنعيم، ومن ثم التلميع لتأخذ شكلها الأخير".

وعن كميات الإنتاج والأسعار يتابع رضوان: "تُعتبر المسبحة المصنعة يدوياً أجود وأغلى، ويُنجز خط الإنتاج اليدوي ما بين 20 إلى 30 مسبحة يومياً، بسعر تكلفة يصل إلى 20 ليرة تركية للمسبحة الواحدة، بينما ينتج الآلي ما بين 100و150 مسبحة يومياً، بسعر تكلفة يصل إلى 15 ليرة تركية للمسبحة، وتتغير الأسعار أيضاً تبعاً لحجم الحبة ولونها".

أما أبو محمود فيقول: "نصنع المسابيح من خاماتنا فقط، بأشكال مختلفة للحبّة (اللوزة –الكسمة -الحبة المدعبلة)، وأكثر الألوان إنتاجاً هما الأحمر والأصفر، لكن اللون الأحمر مرغوب أكثر في تركيا، ولعلّ ذلك لأنه يتّسق مع لون العلم التركي، مع العلم أن التجار الأتراك يُقبلون على المسابيح المصنعة في الورشات السورية فقط حين تكون أسعارها أقل من تلك المصنعة في الورشات التركية".

"لا أسواق في الداخل السوري للمسابيح حالياً" يقول رضوان: "بل على العكس هناك إقبال على المسابيح القليلة التي تأتي من سوريا، حيث أن معظمها نادر وقديم، وتتنوع بين الكيرب أو الكهرب والعقيق والعاج المُطعّم والنقي، وخشب النارجين، واليُسر المطعم بالفضة، وتتجاوز أسعار بعضها الـ 2000دولار أمريكي، بينما بِيع بعضها الآخر بنصف غرام ذهب مقابل كل غرام".

بعد الثورة السورية ظهرت التنظيمات السلفية التي تعتبر المسبحة (بدعة)، وشأنه شأن بقية التنظيمات السلفية، منع تنظيم داعش المسبحة، الأمر الذي لم يمنعني من حمل مسبحتي في رحلة الهروب إلى تركيا. وعلى الحدود، حين طال الانتظار، أخرجتها وأخذت أُحرّك حباتها، فاقترب المُهرّب المُرتاب مني وسألني: "ماذا تقول وأنت تسبّح يا شيخ؟" فأخبرته بأنني لستُ بشيخ ولا أقول شيئاً، وإنما أُحرّك المسبحة لأفرغ التوتر بعد يوم طويل أمضيناه في الهروب من مناطق تنظيم داعش، ولأشغل حالة الانتظار أيضاً ريثما يحين وقت عبورنا للحدود.

حين وصلتُ تركيا تذكرتُ أني أُخبئ في حقيبتي مسبحتين إضافيتين، إحداهما من الفضة الخالصة، والأخرى من الخشب العادي، تحمل ما تبقى من رائحة البلاد، رائحة أمهاتنا، حارسات التقاليد.