العبور إلى تركيا (3 من 3)
لدى الجندرمة

عندما يدخل «الركاب» في هذه التجربة غالباً ما يكونوا قد سمعوا عنها. وبحسب تعامل الجندرمة مع الذين تحتجزهم هناك فروق طفيفة بين طريق وآخر، لكن الاختلاف الجذري يكمن بين الطرق التي تقصدها العائلات وتلك التي يقصدها الشبان.

مع الاقتراب من الحدود يصبح صوت رصاص الجندرمة أوضح للركاب، الذين يستطيعون عادة تمييز الأسلحة الخفيفة أو المتوسطة التي يصدر عنها، كبندقية الناتو أو القناصة أو الرشاش الموازي. وبين الأمور التي يشرحها الدليل لركابه، عند اختيار مكان للكمون ريثما يحين الوقت المناسب، أن الجندرمة تفتح النار في الهواء بشكل اعتيادي (عرايسي)، وأنهم يطلقون على من يركض عند محاولة الإمساك به. وقد روى لي شاب، أصيب صديقه على الجدار الإسمنتي، أن العنصر الذي أطلق النار أصر، أثناء تحقيق الأمنيات معه، أنه حذره عبر الإطلاق في الهواء، ثم أصابه قصداً إصابة غير قاتلة. ويوصي الدليل الركاب بشكل دائم ألا يشوا به عند سؤال الجندرمة عن «القچقچي» لإنزال أكبر قدر من العقوبة الجسدية به. على أن الجندرمة لم تعد تسأل عنه بإصرار، لتيقنهم، على ما يبدو، أن الركاب لن يشوا به، أو أنهم اقتنعوا أن المهرب أصبح يرسل الركاب وحدهم، كما يروي هؤلاء للجندرمة دون اتفاق مسبق.

وصل ضحايا رصاص الجندرمة إلى المئات في الفترة الأخيرة، مما يدفع المراقب إلى الاعتقاد أن الأمر يتم بقصد مسبق أو قرار رسمي، لكن اختلاف الحوادث التي سقط فيها ضحايا، وكنت على مقربة منها أو معرفة جيدة بها، يشي بغير ذلك. وعلى عكس تلك الحادثة التي قتلت فيها امرأة على طريق «إزن»؛ في إحدى المرات، وكنا على مسافة لا تقل عن أربعة كيلومترات من الحدود، انهال علينا الرصاص من مرتفع في سورية، وأثناء اختبائنا عادت مجموعة ركاب راكضة مخلفة وراءها أحد أفرادها مصاباً في خاصرته. في تلك الحادثة أشيع أن الرصاص مصدره مسلحون من قرية سورية حدودية دخلوا في خلاف مع هيئة تحرير الشام بخصوص التهريب. ورغم أن تواتر إطلاق الجندرمة النار على الركاب مباشرة يدفع إلى الشك في تلك الرواية، إلا أن احتمال وقوعها قائم في الظروف الحالية. وبينما تقطع غالبية «قوى سوق التهريب» بأن ضابطاً أو عناصر علويين في الجندرمة يقفون وراء قتل الركاب، فإن حوادث من نوع آخر تفتح باباً لتفسير قسم منها. فهناك مجموعات من الجندرمة تدخل إلى الأراضي السورية بقصد سلب الركاب أغراضهم وأموالهم، وكثيراً ما عاد مهربون أو عناصر من الفصائل لفتح النار على نقاط الجندرمة بعد حوادث مشابهة.

في إحدى محطات الرحلة يطلب الدليل من الأهل إعطاء أطفالهم الشراب المنوم خوفاً من مفاجأة المجموعة بالبكاء عند الاقتراب من الحدود، الأمر الذي يلصق به كثيراً إمساك الجندرمة بالمجموعة. وقتها، أو عند كشفهم عبر المناظير، يفتح العناصر النار في الهواء أو على المنحدرات المحيطة، ثم يقتادون الركاب للتجميع في أحد المراكز، ليصل عددهم في مخفر واحد ولليلة واحدة إلى حوالي 300 شخص كنت بينهم، بينما وصل العدد إلى الآلاف في الأعياد. ويجري إطلاقهم أحياناً إلى الأراضي السورية مباشرة، أو نقلهم عادة عبر حافلات مدنية بعد ساعات أو أيام إلى بوابة سورية، بعد تفتيشهم بواقية البندقية على أنها كاشفة معادن، ومصادرة بطاريات جوالاتهم، وتسجيل أسمائهم كيفما اتفق، وتصويرهم جماعياً.

يظهر جلياً التزام ضباط الجندرمة بقانون يفرض عدم المساس بـ«الأسرى» وإعادة أغراضهم إليهم، وهي ما تبقى لهم بعد التخلص من ثقيلها في الطريق. ينطبق ذلك أساساً على طرق العائلات، بينما يتعامل قسم من العناصر بوحشية في طرق الشباب، خاصة حين يغض الضباط النظر عنهم، حتى وصل الأمر مرة إلى استعمال المجرفة في ضرب أحد شبان مجموعة كنت فيها. وتنسحب عشوائية تعامل العناصر على ساعات أو أيام الاحتجاز التي يقضيها الركاب عادة في ملعب السلة في المخفر؛ فقد جلب بعضهم لنا الطعام والأغطية في الليل، بينما حرمنا منها آخرون، واستعملنا قسم منهم في جز الحشيش حول المخفر وشطف الحمامات.

وفي حادثة جرت منذ مدة قريبة لحقت سيارة الجندرمة بسيارة الركاب بعد أن دخلت الأراضي التركية، فصدمتها من الخلف وفتحت عليها النار، لتتوقف بعد إصابة تسعة أشخاص فقد اثنان منهم الحياة. يقول أحد الناجين إن الكثير من رجال البوليس والصحافة تجمعوا، ثم اقتادتهم الجندرمة لاحتجاز لستة أيام، مرروهم خلالها على ستة مشاف، ووعدوهم بإدخالهم إلى مخيم في تركيا، وفي النهاية أرغموهم على البصم على أوراق مغادرة الأراضي التركية طوعاً!