وما زال الحمام يطير....

الصورة من alazmenah.com

في كافة المناطق السورية، تعدّ تربية الحمام أمراً مألوفاً وقديماً؛ إذ يعيدها البعض إلى قوم النبيّ لوطٍ عليه السلام. وهي من المحاولات القديمة للإنسان للسيطرة على الطبيعة، وإخضاعها لإرادته، والاستفادة منها.

ويعتقد الكثير من الناس أن تربية الحمام هوايةٌ فقط، يمارسها المهووسون في الأحياء الشعبية (وهي المناطق التي تنتشر فيها هذه الظاهرة). لكن الحقيقة أن الأمر لا يقتصر على الهواية دائماً، بل قد يتعدّاه إلى كونها عملاً يدرّ على أصحابه مردوداً مادياً معقولاً قد يكون، في كثيرٍ من الأحيان، هو الدخل الوحيد لصاحبه، خاصةً مع تفشّي البطالة قبل الثورة وبعدها. في هذه الحالة تكون تربية الحمام مهنةً أكثر منها هواية، كما يقول خالد، وهو أحد خريجي المعاهد الذين وجدوا أنفسهم بلا عمل، رغم أنه تقدّم لأكثر من مسابقة تعيين، لكنه لم ينجح لأنه، كما يقول: "مو من طرطوس، وما عندي واسطة". وهو الآن، في مدينة دير الزور المحرّرة، يمارس هذه المهنة - الهواية بشغف.
ويتابع: "كانت - في مدينة دير الزور - شخصياتٌ مثقفةٌ كثيرة، تحمل أعلى الشهادات الجامعية، فمنهم الطبيب ومنهم المهندس، تربّي الحمام. لكن ذلك في حالتهم كان هوايةً فقط". وهو يحاول بهذا تبيان أن الأمر ليس مشيناً بالضرورة. إذ إن الناس في دير الزور، كما في غيرها من المدن السورية، تتصوّر في أذهانها شخصيةً نمطيةً للـ(حممجي)، أو (الحميماتي) كما يسمّى في غير مكان، تنطوي على الكثير من الرذائل والشذوذ.
يقول خالد: "الناس تخلط بين الحممجي بهذا الوقت، والحممجي إللي يتخيلونه في قوم لوط عليه السلام. بس هذا مو صحيح، لأن الرذائل إللي ينسبونها للحممجي موجودة عند غيره؛ وبالمقابل بي حممجية بقمة الأخلاق والأدب والدين، لا تزعل".
اليوم، يضع خالد حمامه في الحديقة الخلفية للبيت، في ظلّ القصف الذي تتعرّض له المدينة، والقنص الذي قد يتعرّض له لو أنه وضع الحمام على السطح، كما كان يفعل جميع أصحاب الحمام في السابق. لكن الغريب أن بعض الحممجية ما زال يمارس هوايته على الأسطح، وفي بعض الأحيان في مناطق قريبةٍ من الجيش الأسديّ. وعن هذا يقول خالد: "هذا الأمر ليس له سوى أحد تفسيرين؛ إما أنهم مجانين، تطيير الحمام عندهم أغلى من حياتهم، أو أنه بي تفاهم بينهم وبين الجيش الموجود قريب منهم لدرجة أنه يقدرون يتكلمون معه".

 

بروتوكولات

لتربية الحمام وتطييره خاصةً، قوانين وتقاليد (أصول) لا يخرج أحدٌ عنها إلا ما ندر. ويذكر الجميع في دير الزور الخلافات بين مربّي الحمام، التي قد تصل إلى القتل، بسبب خرق هذه القوانين. ومن هذه القوانين أعرافٌ في كشّ الحمام (تطييره)، حين لا مفرّ من اختلاط أسراب الحمام (الكشات) ببعضها، إما لقلة خبرة الحمام أو الحممجي، أو بسبب انجذاب الحمام لبعضه. ولتفادي الصدام بين أصحاب الحمام يتمّ الاتفاق سلفاً، بين طرفين أو أكثر، إما على إعادة أو على عدم إعادة الحمام - الذي يدخل في سربٍ غير سربه - إلى صاحبه.
ومن العادات المعروفة عن مربّي الحمام اجتماعهم في مقهىً خاصٍّ بهم، يبيعون ويشترون الحمام فيه، أو يستفسرون عن أسعاره ويتبادلون الحديث عنه. ويجتمع مربّو الحمام اليوم في دكانٍ في حيّ الحميدية، حوّله صاحبه إلى ما يشبه المقهى، يبيعون ويشترون فيه، كما يتحدثون عن الحمام والحرب والسياسة، ويشربون الشاي. واللافت في الأمر أن صاحب المقهى، الذي يقدّم للجميع المشروبات مجاناً، كان قد ترك عمله كخبيرٍ في شركة نفطٍ أمريكيةٍ في العراق، كان يتقاضى فيها حوالي 2000 دولار، وذلك عند انتشار الجيش الحرّ في المدينة، ليجلس بين أهله وناسه، أو يموت معهم، كما يقول دائماً.