من دار جرحى في تركيا

النظام زائلٌ.. وداعش والخلافات تطيلان عمره

بين حينٍ وآخر، تذهب عيونهم إلى الجبال السورية من شبابيك دار الاستشفاء في مدينة الريحانية التركية على الحدود. تجمعهم عبارة "جرحى الحرب"، وتجمعهم كذلك بعض الأمنيات.

لا يكفّ نوح، ابن الغوطة الشرقية، عن الكلام حول أوضاع المحاصرين هناك. غلاء الأسعار، والمعاناة الرهيبة، وقصص التكيّف الخيالية مع الحصار هي الحديث شبه الدائم لهذا الشاب ذي الخامسة والعشرين، الذي "عاش الثورة بأقسى تفاصيلها" كما يقول. كان نوح خياطاً قبل التحاقه بـ"الخدمة الإلزامية" في جيش الأسد. شارك أوّل الثورة، أثناء إجازته، في المظاهرات السلمية لأبناء بلدته، قبل أن ينشقّ عن جيش الأسد قرب مدينة الرقة ويلتحق بثوّار دير الزور الذين سهّلوا انشقاقه. قاتل في حيّ الجبيلة في مدينة دير الزور، وصدّ مع ثوارها هجمات الحرس الجمهوريّ. ثم انتقل إلى القلمون ليقاتل فيها، وفي التل والعتيبة وعربين ثم المليحة، حيث كان موعده مع قذيفةٍ صاروخيةٍ أدّت إلى بتر ساقيه. وبطريقةٍ ما، صعبةٍ ومتسلسلةٍ، وصل إلى تركيا منذ عامٍ ونصفٍ. وهو يقيم اليوم في دار الاستشفاء هذه. مثل معظم الجرحى يوجّه نوح نقداً قاسياً لبعض الفصائل المسلحة التي تدّخر قوّتها وسلاحها إلى مرحلة ما بعد الأسد، ويخشى من التنازلات التي قد تفرّط في الحقوق على طاولة المفاوضات. يقاطعه أبو رجب، ابن بلدة الأتارب بريف حلب، وصانع "الهاونات" السابق الذي فقد ساقه بقصفٍ جويٍّ، قائلاً إن الفرج سيأتي بأمرٍ إلهيٍّ فقط، وإن الثوار قد فعلوا ما يستطيعون فعله. رغم أنه لم يتعدّ الثلاثين يبدو أبو رجب أكبر من ذلك بكثير، وخاصّةً في لحظات انفعاله حزناً على صور نازحين سوريين تنقلها شاشة التلفاز صدفةً، وحين تأخذه أطراف الحديث إلى مواقف عجزٍ يلهج خلالها بالأدعية.

الفرقة والتشتت هما السببان الرئيسيان لتأخر الانتصار على الأسد؛ يُجمع الثوّار الجرحى على ذلك. ويضيف بعضهم سبباً آخر هو غياب المرجعية الدينية أو التقوى، الأمر الذي يجعل كلّ فصيلٍ يظنّ نفسه على حقٍّ مطلق. لكن هناك بارقة أملٍ في جوّ التفرق هذا هي جيش الفتح، حسبما يستدرك أبو رجب ويؤيّده آخرون. مع الوقت يتضح أن أبو رجب زائرٌ مؤقتٌ إلى دار الاستشفاء. وأنه جاء إلى تركيا هذه المرّة لعلاج ابنه ذي الأربع سنوات، الذي يعاني من مشكلاتٍ عصبيةٍ في العين وأخرى في الدماغ. وأنه لم ينقطع كلياً عن عمله السابق في تصنيع السلاح، فهو يذهب، كلما سنحت له الفرصة، لمساعدة رفاقه في ورشة التصنيع. وفي حال عادت الحياة الطبيعية إلى سوريا بعد سقوط بشار الأسد، وهذا ما لا يتوقعه أبو رجب في وقتٍ قريبٍ، فإنه ينوي أن يعتكف في بلدته لتعليم أطفالها قراءة القرآن.

لأحمد، ابن دير الزور، تصوّرٌ مختلفٌ عن حياته بعد سقوط الأسد. فهو يريد أن يكمل دراسته الجامعية، رغم شلل طرفيه السفليين إثر إصابته بطلقٍ ناريٍّ في رقبته في معارك بلدة مركدة ضدّ داعش. لم تمنع آلام الرأس الشديدة أحمد عن الكلام عن قصته مع المظاهرات ثم الملاحقات الأمنية التي أجبرته على الاختباء في بيته في القورية، ثم حمل السلاح مع الجيش الحرّ، وتحرير ريف دير الزور، حتى طرد داعش ثم تمترسها في مركدة. تتقطّع القصّة بأخبارٍ عاجلةٍ عن داعش تأتيه على جوّاله عبر الواتس والفيسبوك. ينقلها لنا مؤكداً أن أية معركةٍ ليست ضدّ داعش معركةٌ جانبية، لأن النظام زائلٌ لا محالة، ولأن داعش هي من تطيل عمره، وتكاد تلتهم ما تبقى من سوريا.

كان في نيّتي أن أسألهم سؤالاً مزعجاً إن كانوا قد ندموا -بعد إصابتهم- على مشاركتهم في الثورة، وعن الخيار الذي سيأخذونه لو عاد الزمن إلى الوراء. لكن الأمل والترقب في عيونهم، والثقة التي يتحدثون بها، والأحلام التي يكشفونها بيسرٍ حالت دون ذلك السؤال.