مخابرات داعش استنساخ التجارب بلا طائل

حرص تنظيم الدولة الإسلامية، في الفترة الأخيرة خاصّةً، على استخدام تسمياتٍ رنانةٍ، في إصداراته أو أثناء احتكاكه بالأهالي، للإيحاء بالقدرة الفائقة والتنظيم العالي الذي لا يُغفل أيّ تفصيلٍ يخصّ "دولةً" قويةً، لا ينقصها أيّ شيءٍ لتجابه الدول الأخرى. ومن تلك التسميات (المخابرات). لكن المراقب على الأرض لا يجد شيئاً من هذا الاسم، غير بعض المحاولات الشخصية للأمراء والقادة للسيطرة على الأهالي، عن طريق أدلاء ومخبرين من بين الأهالي أنفسهم، لا ينتظمهم جهازٌ يعمل على جمع المعلومات والإفادة منها في الوقت المناسب، كما هو معروفٌ عن أجهزة المخابرات في أيّ مكانٍ من العالم.

وقد بدأت تلك المـحاولات -في مدينةٍ ليس للتنظيم فيها جذورٌ اجتماعيةٌ، كدير الزور- بعرض الصــــفقات على أصحاب المخالفات الصغيرة، حين يتكرّر اعتقالهم. وتكون الصفقة بالإفراج عن المتهم ومنحه مبلغاً مالياً، مقابل إدلائه بمعلوماتٍ مهمّة ٍأو إيقاعه بأشخاصٍ معيّنين. يقول أحد الذين عُرضت عليهم تلك الصفقة من قبل أمير الحسبة التونسيّ: "حبسوني أكثر من مرّة مشان الدخان.. آخر شي قال لي الأمير إذا تشتغل معانا أعطيك ثلاثة آلاف ليرة عن كلّ بياع دخان تدلنا عليه". وتعقد تلك الصفقات تصاعدياً؛ أي أن المدخنين يجنَّدون للإيقاع بالباعة الصغار، ويجنَّد هؤلاء للإيقاع بالتجار، وهكذا. ويتغاضى الأمراء عن المتعاونين، طالما ليس لعملهم أيّ أثرٍ سياسيٍّ أو عسكريٍّ على المدى البعيد. ومن هذه الناحية، درج أولئك القادة على بثّ عناصرهم بين كتائب الجيش الحرّ -حافظت بعض كتائبه على سلاحها واستمرّت في قتال قوّات الأسد تحت سلطة داعش- لاستدراجهم ومراقبة تحرّكاتهم خارج الجبهات. ويتّبع العناصر (الجواسيس) طريقةً خبرهـــــا السوريون مع نظام الأسد، وهي إبداء الاستياء من التنظيم لبثّ الراحة بين الجلساء. وعن هذا يقول أحد المقاتلين: "يبعثون شباب يسبّون الدواعش قدامنا تا يورطونا". ويتابع ضاحكاً: "ويسألونا شلون ينضمّون للكفن الأبيض! العمى على هـ الجحاشة عينك عينك". وبحســـب ناشطين اعتقلوا سابقاً، يلجأ الأمراء إلى بثّ جواسيسهم بين السجناء كذلك، لتلقّط أخبارهم العامّة أو الخاصّة، ومواجهتهم بها أثناء الاستجواب، لإيهام المتهم بأن "مخابرات الدولة تعرف كل شيء إلا الغيب"، كما يحلو للشرعيين أن يكرّروا في التحقيق.
ولأن المخالفين قد يشكّلون، في بعض الأحيان، بؤراً اجتماعيةً مغلقةً بعيدةً عن أنظار التنظيم، فقد سعى أمراؤه إلى اختراقها عن طريق الزواج أو الصداقة. مما فتح الباب للكثير من الحكايات عن علاقاتٍ مشبوهةٍ تجمع بعض الأمراء بالمنبوذين اجتماعياً، كما في حالات علاقات مهاجرين -من مصر وتونس خاصّةً- بتجار حشيشٍ ومومسات. وفي حالات زواجٍ عدّةٍ استغلّ الأمراء أنسباءهم من الأطفال والنساء لجمع المعلومات والقبض على المخالفين. كما يقول بعض الذين صادر التنظيم سلاحهم إن تجّار الأسلحة أنفسهم هم الذين وشوا بهم، وإن هؤلاء التجار يملكون رخصاً من التنظيم، تسمح لهم ببيع السلاح وشرائه.
وبعيداً عن التجنيد المباشر، وعن العلاقات الشخصية التي يستخدمها الأمنيون والعسكريون والإعلاميون لاختراق التجمعات الأهلية وإعادة ترتيبها وفق الولاء للتنظيم؛ هناك عمليات تجنيدٍ طوعيٍّ من قبل البعض، تدفعهم إلى ذلك خشية العقاب أو الطمع بالمال والحظوة. وبحسب أحد الناشطين فهؤلاء هم "الأكثر خطراً"؛ فعناصر داعش غرباءٌ عن المدينة عموماً، إذ يحرص التنظيم على إبعاد أفراده عن وسطهم الاجتماعيّ، خوفاً من خروجهم عليه أو مسايرتهم لأعراف الوسط، ولذلك فهم يجهلون المدينة جهلاً تاماً، ولكن المتملقين والمنافقين و"طقيقة البراغي" هم أدلاؤهم على الناشطين والإعلاميين والمقاتلين السابقين، أو العاملين في الخفاء. وفي بعض الأحيان "يفتّحون عيونهم على شغلات ما يعرفونها ولا مدوّرين وراها". ويدلل الناشط على ذلك بما يحصل في المكتب الطبيّ الموحّد، فالعاملون فيه، الذين يعتقلهم التنظيم بسبب نشاطاتهم، يكون زملاؤهم "حفروا جوّاهم" ووشوا بهم، ليأخذوا مكانهم في المكتب. وقد حصل الأمر ذاته من قبل الكثير من مقاتلي جبهة النصرة السابقين، الذين صاروا يقدّمون الخدمات مجاناً "لمن هم على حقّ"، كما يقولون.
لا يهتمّ قادة التنظيم كثيراً، كما تبيّن للأهالي، بالخطيئة والفضيلة، بقدر اهتمامهم بالبقاء. الأمر الذي يبدو جلياً في إعادة تدوير المخالفات والخلافات وتوظيف أصحابها في استئصال أية بذورٍ للمقاومة ضدّ داعش.