تماثيل (الأب المؤسس) .. نظرة فنّية قراءة في الوجه الحجري للقائد

لو عُزِلت تلك الصورة الكبيرة التي تم رفعها مؤخراً في حلب، عن الكتابات المحيطة بها، وعن المشهد العام لمباراة كرة السلّة، لكان بالإمكان التوقّع أن سكان منطقة خارجة عن سيطرة النظام السوري، أحيت فعالية استهزاء بمؤسس الخراب، فرسمت وجهه على هيئة ثمرة إجاص بأذنين تزيدان عن الخدين طولاً، وعينين لا تناظر بينهما. لكن الصورة مرفوعة في بقعة أخرى ولغاية التمجيد لا الاستهزاء.

لعل هذه الظاهرة -صور التمجيد التي توحي بالاستهزاء- ظاهرة سوريّة قديمة، مصدرها بلا شك فقدان بلاد البعث لمحترفين في التصميم والرسم والنحت يعملون على أنصاب وصور تمجيد القائد. لم تفتقد سوريا هذا بالتأكيد، فمحترفوها يجوبون بمعارضهم في الخارج، إنما لم يستطع النظام أن يشتري سوى روّاد الفشل.

بعد رفع الصورة المذكورة بأيام، نصبت قيادات حزب البعث والأفرع الأمنية في اللاذقية تمثالاً لحافظ الأسد في بلدة كسب، احتفالاً بالذكرى السنوية لعودة المدينة إلى سيطرة النظام، بعنق طويلة نسبياً، وعلّها أكثر المكوّنات المرتبكة في هوية الأسد الأب الاستذكارية بالصور والتماثيل، فخلافاً لمجمل مكونات جسده، كانت العنق إلى حدّ ما تختلف في طولها ونسبتها من الكتلة العامة للنصب، بين تمثال وآخر.

ستجدها هنا طويلة، وقصيرة نسبياً في تمثال عملاق آخر له في الساحة الرئيسية للمدينة الجامعية بدمشق، عريضة نسبياً في تمثال كلية الآداب، منتفخة فوق الياقة في تمثال ساحة عرنوس. فيما تكاد تتطابق الجباه والخدود وتسريحة الشعر بين مئات التماثيل على طول البلاد وعرضها.

التماثيل التي تمت استعادة الكثير منها خلال السنوات القليلة الماضية، وتستمر استعادتها اليوم، إلى الساحات التي تم نزعها منها في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام مسبقاً، لها ما يوحّدها أيضاً سوى طريقة نحت تفاصيل الوجه؛ إنّه سوء التنفيذ الفني، وإن قورنت بتماثيل ديكتاتوريات شيوعية وقوميّة في الكثير من بلدان العالم، فهي تفتقد إلى الصانع المحترف، تعاني مشكلة النسبة والتناسب بين الأطراف، وبين الجسم والرأس. نُفّذت للانتشار كماً لا نوعاً. ولعلّ عقد الثمانينات شهد نَصْب نسبة كبيرة منها على عجالة. لم يكن مطلوباً سوى منطقة مرتفعة يطلّ بها القائد على شعبه، مكان يمكن لكل من يرفع رأسه فيه أن يرى وجه زعيمه العابس، القوي، الموجود دائماً.

لدى عدد كبير من تماثيل الأسد الأب، أسلوب مدّ اليد ذاته، بزاوية شبه قائمة عند مفصل المرفق، ومد كفّ مفتوح يوحي بحركة شرطي سير لتنظيم عبور السيارات أكثر مما يوحي بتحيّة أو مصافحة أو حتى صفعة. التماثيل التي يمد بها الأسد يده موجودة في كثير من الشوارع العامة، وهو أيضاً ما يؤكد هذه النقطة الساخرة.. إنه ينظّم السير.

بيضاء وسوداء، لا لون آخر لها، تحمل كتباً في المرافق التعليمية، وترفع علماً فوق أرض من المفترض أنها كانت موقع معركة ضد العدو، تلبس عباءة في الريف وبذّة رسمية في المدينة، وأخرى عسكريةً في مؤسسات الجيش، وتداعب الأطفال في الحدائق. كلّها تطبّق مقولة الأب الأول، والمعلم الأول، والقائد الأوّل.. بعيداً عن رمزيّاتها، وارتباطها بأيديولوجية فرض الشخص الواحد فوق العموم.. إنها بائسة التصميم للغاية.

قال فلسطيني عابر يوماً ما من أمام تمثال حافظ الأسد في ساحة عرنوس، أنه نُصُبُ إله الجوع عند السوريين. لقد كانت قراءة سريعة ممزوجة بسخط لاجئ مضطر لعبادة من ينافق ليل نهار بمصطلحات قضيته، تلك التي لجأ باسمها وجاع باسمها. لكن بلا شك إن أمعنت النظر في تفاصيل وجه الأسد الأسود في هذا التمثال، ستجد التقشّف الموعود في النظرة وتقاطيع الوجه.

اكتملت تلك النصب التذكارية يوماً ما، حينما أضاف الشباب السوري الثائر لمساته الفنيّة عليها، بحذاء هنا، وقرون هناك، بكسر أنف، أو فقء عين. ولعلّ المشهد التعبيري الأهم في هذا السياق بالذات هو نزع النظام للتمثال الذي مكث لعقود في وسط مدينة حماه، بهدوء وحذر، ثم وضعه على ظهره في شاحنة كبيرة، ومدّ القماش الحاجب له على طول التمثال.. كان الهدوء والحذر المرافق لتلك العملية حينها، موسيقى نهاية عهد لم ينتهِ بعد.