الخوذ البيضاء والقلوب السوداء

ترافقت الحملة الدولية تأييداً لمنح الدفاع المدنيّ في المناطق المحرّرة جائزة نوبل للسلام مع هجومٍ شنيعٍ ضد «أصحاب الخوذ البيضاء» من قبل بعض منتحلي صفة «المعارضة»، بوصف رجال الدفاع المدنيّ «إخوانيين» أو «إرهابيين» وما إلى ذلك من صفات.

«معارضو المعارضة» هؤلاء كانوا، إلى وقتٍ قريب، يستهدفون الثورة باعتبارها إسلاميةً أو مسلحةً أو طائفيةً أو مرتهنةً لأجندات دول، في مسعىً للتستر على دفاعهم الضمنيّ اليائس عن النظام. ولكن مع اشتداد القصف الروسيّ–الأسديّ على مدينة حلب، في أعقاب فشل التفاهم الأخير بين موسكو وواشنطن، والاستهداف اليوميّ للمدنيين والمستشفيات والأسواق الشعبية، أزال بعض الموالين المتنكرين في هيئة معارضين كل أقنعتهم وباتوا يعبّرون عما يخجل النظام الفاجر والمحتل الروسيّ المجرم من التعبير عنه علناً. فحتى رأس النظام الكيماويّ نفسه، وهو المعروف ببلاهته ووقاحته وكذبه، لم يتجاوز حدّ السخرية في تعليقه على احتمال منح جائزة نوبل لمنظمة الدفاع المدنيّ، حين تساءل عما فعله ذوو الخوذ البيضاء ليستحقوا الجائزة. فلم يتهمهم بشيء، بل اكتفى بإنكار حقهم في الحصول على الجائزة. أما بعض منتحلي صفة المعارضة فقد كشروا عن أنيابهم المسمومة أمام احتمال تكريم منقذي الحياة.

ما هو تفسير كلّ هذا الحقد على أشخاصٍ يخاطرون بحياتهم لإنقاذ حياة منكوبين؟!

أظن أن هؤلاء أُخذوا بالتعبئة الإعلامية الكبيرة حول معركة حلب باعتبارها، في ظنهم، معركة الفصل في سياق الصراع الدامي في سوريا وعليها. إعلام النظام وكامل شبكة الإعلام الممانع، إضافةً إلى الإعلام الروسيّ، يعملون بكامل طاقاتهم للقول إن الثورة ستنتهي بـ«تطهير حلب»، وسوف يستتب الأمر للنظام للسيطرة على كامل الأراضي السورية. طبعاً باستثناء أراضي دولة داعش التي لم يعودوا معنيين بها، وقد سلموا أمرها للتحالف الدوليّ بقيادة الولايات المتحدة.

من هذا المنظور تصبح المهمة هي إفراغ حلب الشرقية من سكانها ومن الفصائل العسكرية المعارضة، ليستلمها النظام خراباً ويعيد هندسة سكانها الجدد بعد إعادة إعمارها، على مثال ما بدأ في حمص، مؤخراً، بأموال الأمم المتحدة. القصف الجنونيّ المستمرّ، منذ أكثر من أسبوعين، على حلب، ودعوة الوسيط الدوليّ دي مستورا إلى إخراج مسلحي جبهة النصرة، على زعمه، والدعوات الروسية للسكان المدنيين بالانفكاك عن «الإرهابيين» والخروج من المدينة المحاصرة.. كلها تستهدف الإفراغ المذكور الذي يبدو لمنتحلي صفة المعارضة «نهاية محنتهم». وكل عملٍ يعرقل هذه «النهاية السعيدة» أو يؤخرها هو، في نظرهم، عملٌ إرهابيٌّ من شأنه وضع حلمهم بعودة عبوديتهم لنظام الكيماويّ على كف عفريت. فإنقاذ طفلٍ من تحت الأنقاض قد يؤخر تحقيق هذا الحلم، خاصّةً وأن هذا الطفل من «الحاضنة» الاجتماعية لـ«الإرهاب». وبما أن هذه الحاضنة المزعومة محدّدةٌ طائفياً، فكل ناجٍ من المجزرة عدوٌ مستقبليٌّ لجنّة عبوديتهم الأقلياتية.

كانوا يمجدون «بطولات الجيش العربي السوري» للتمويه على بطلهم المغوار بشار الأسد وجزاريه. مع أنهم يعرفون أنه لم يعد هناك جيشٌ مقاتلٌ في إمرة النظام، بل عصاباتٌ مسلحةٌ بقيادة أمراء حربٍ خارج السيطرة، يقفون على الحواجز ويحاصرون المدن والبلدات ويقومون بكل أنواع الإجرام. في حين أن من يقاتل بالفعل هي ميليشياتٌ شيعيةٌ متعددة الجنسيات غير قادرةٍ، بدورها، على خوض معارك ناجحةٍ على الأرض، والبديل الوحيد هو القصف الروسيّ–الأسديّ الذي لا يستطيع غير إنتاج الدمار والتهجير.

يحقد هؤلاء على منقذي الأرواح من تحت الأنقاض لأنهم أدركوا أنه لا سبيل لتعايشهم، في بلدٍ واحد، مع الأكثرية السنّية «حاضنة الإرهاب». والحلّ، في رأيهم، هو «تطهير» الأرض من هؤلاء، لتعيش الأقليات السعيدة بعبوديتها في سورياهم المفيدة، بعيداً عن الذين لا يفقهون نِعَم العبودية وملذاتها.

لا أعرف من أين جاؤوا بتهمة أن جماعة الدفاع المدنيّ تابعون للإخوان المسلمين. ولكن لنسلم معهم بذلك؛ هل كونهم من الإخوان المسلمين يبرّر الحقد على دورهم الإنسانيّ البطوليّ؟

صحيحٌ أن جائزة نوبل لم تذهب لأصحاب الخوذ البيضاء، لكن تأييد مليونٍ ونصف مليون شخص، من كافة أنحاء العالم، لمنحهم هذه الجائزة شكّل صفعةً مدويةً لأصحاب القلوب السوداء.