التحرش الجسدي واللفظي «ضريبة» جديدة تدفعها النازحات السوريات

"كانت نظراته مخيفة فعلاً، عندما رأيت الشيب الذي يغطي رأسه، لم أتوقع أن تصدر منه تلك النظرات الغريبة والكلمات الإيحائية الجنسية". هذا ما قالته عربية لعين المدينة بعدما قطبت جبينها وبدت على وجهها علامات الانزعاج الشديد.

أضافت: "كنت عائدة من عملي في أطمة إلى الدانا في محافظة إدلب حيث مكان سكني بعد النزوح، ورغم اكتظاظ الشوارع بالحافلات لم تقف لي اي منها، فمشيت حتى سيطر علي التعب وصرت ألهث، ما دفعني للجلوس في ظل شجرة على جانب الطريق. ثم وصلت حافلة خالية إلا من السائق، فصعدت. كانت هيئة الأخير توحي أنه تجاوز الستين من عمره. ما إن أغلق باب الحافلة حتى التفت إلي بنظرات إعجاب قائلاً: ما شاء الله، ما شاء الله. وسرعان ما سألني: كم عمرك؟ أجبت: ثلاثون، تابع: متزوجة؟ أجبت: نعم، عندك أولاد؟ قلت: لا. كم عمر زوجك؟  أجبت: ثلاثون. فأردف بكل وقاحة: "ما خرجوا إذا بعمرك، يا ترى بيستاهلك؟"، قلت له: توقف لقد وصلت، فرفض، أراد أن يوصلني إلى مدخل المنزل فأصررت. وعندما أردت أن أدفع له المقابل لم يقبل قائلاً بابتسامة:" بدي بس تكوني بخير وسلامة".

كأنه لم يكف أهالي ريفي إدلب الجنوبي وحماة الشمالي ما عانوه من ظروف أقل ما يقال فيها أنها قاسية وصعبة خلال الفترة الأخيرة. فمن النزوح هرباً من القصف، إلى الاكتظاظ الكبير في المناطق المضيفة، إلى غلاء المعيشة وصعوبة تأمين سكن جديد. كل تلك الظروف تقاطعت لتشكل أرضية خصبة لظاهرة جديدة تطاول النساء: التحرش بمختلف أنواعه، سواء لفظياً أو جسدياً وما ينتج منه من كلام وتصرفات غير مرحب بها لدى الأنثى الضحية. وما ساعد في تكاثر هذه الظاهرة أن النازحين توزعوا بأعداد كبيرة في مناطق مختلفة من الشمال، البعض في خيم تكاد الواحدة تلتصق بالأخرى، فيما افترش البعض الآخر الأرض والتحف السماء ماكثاً في العراء، بينما استأجر آخرون بيوتاً في مدن وبلدات غريبة عنهم، بالكاد يعرفون أحداً من سكانها أو حتى من يجاورهم من نازحين آخرين.

سألت عين المدينة 50 نازحة من أماكن مختلفة في ريفي إدلب وحماة، توزعن في مدن ومخيمات الشمال، عما إذا كن قد تعرضن للتحرش. وقد تجاوزت نسبة اللواتي عشن هذه التجربة المرة ال60 بالمئة خلال فترة النزوح التي بدأت منذ تصعيد عمليات القصف التي يقوم بها النظام منذ بداية أيار الفائت حتى اليوم. والمفارقة أن بعضهن كن يعتقدن أن التحرش ينحصر بمحاولة الاقتراب والملامسة الجسدية، وإذ بهن يفاجأن بأنه يندرج أيضاً في الإطار اللفظي.

 الضحايا يتحدثن

قالت علا (اسم مستعار 25 عاماً) من قرية الشيخ مصطفى بريف إدلب الجنوبي: "خرجنا من قرانا مع رحيل الكثير من الناس بسبب اشتداد القصف، وواجهنا مشكلة العثور على سكن، وخصوصاً أن عدد النازحين كان كبيراً، كما أن إيجارات البيوت غالية جداً في مناطق الشمال، ونحن عائلة كبيرة لا نستطيع أن نقيم في خيمة أو اثنتين. لذلك استأجرنا بيتاً واحداً مع خالي وعائلته وكنا نتشارك في كل شيء، وخصوصاً النفقات. سارت الأمور بشكل جيد حتى عاد ابنهم الشاب من تركيا. أخذ يحاول التقرب مني وبدأ ملاحقتي من مكان إلى مكان. تارة يقول على مسمعي كلمات "ملغومة" تنطوي بشكل غير مباشر على معان بذيئة، وتارة أخرى يحاول لمسي أو يجلس قريباً مني على نحو لا يطاق. ووصل به الأمر مرة إلى استغلال وجودي في المطبخ وحيدة، فباغتني من الخلف وضمني بقوة.

صدمت بسلوكه وسارعت إلى ضربه بركوة القهوة على رأسه، ثم خرجت وقلبي يدق بسرعة جنونية. بكيت يومها بشدة وشعرت بالقرف، بيد أني لم أجرؤ على إخبار أحد من العائلة خشية أن يكذبني ابن خالي ولا يصدقني أحد، فتنشأ مشكلة بين العائلتين لسنا مستعدين لمواجهتها".

وروت زهراء (23 عاماً) من خان شيخون: "أنا خريجة كلية التربية (معلم صف)، نزحت في بداية الحملة لأمكث في قاح في محافظة إدلب. كنت أقرأ مرة صفحة على تطبيق تلغرام تنشر إعلانات للوظائف، فوقعت على مسابقة لتوظيف مدرسين في المخيمات، وعلى من يريد التقدم إليها الذهاب إلى مجمع المخيمات في مخيم الجولان، فاتجهت في اليوم التالي من قاح إلى هناك. الطريق طويل ومليء بالسيارات والناس من مناطق مختلفة. لم أسلم من "التلطيش" والغمزات فضلاً عن التحديق بي من حذائي حتى الملفح الذي على رأسي".

وسردت عليا (30 عاماً) أيضاً قصتها مع التحرش. قالت: "كنت في مدينة إدلب ومعي بعض الأغراض أريد أن أبيعها. أكياس أرز وبرغل حصلت عليها على شكل معونة وكنت بحاجة للمال. رحت أتنقل بين المحلات بشكل يوحي أنني نازحة، فأوقفني رجل ستيني شبه أصلع ضخم الجثة بحجة أنه يريد شراء الأشياء مني، ثم صار يسألني عن نفسي، فهممت بالمغادرة لكنه أوقفني قائلاً: "عندك مانع أتعرف عليكي؟، فلم أرد، ثم أضاف مشيراً:" أنا بيتي هناك". أصبت بالهلع فأدرت ظهري وغادرت المكان بسرعة".

وقالت عيشة (33 عاماً) "عندما وصلت إلى بنش في محافظة إدلب مع أطفالي لم أكن أعرف شيئاً. سألت صاحب محل ألبسة أسفل المبنى الذي أقيم فيه عن دكاكين السمانة وغيرها من الأمكنة التي قد أتردد إليها يومياً، فطلب رقمي بحجة أنه سيؤمن لي معونات كوني نازحة فأعطيته إياه، ثم صار يبعث إلي برسائل طوال الوقت وكأن لا هم لدي سوى محادثته. لم يحضر لي معونات كما ادعى وتبين لي أن لا علاقة له بذلك. في البداية شعرت بالحرج فصمت، لكنه تمادى وصار يطلب مني أن أحادثه بواسطة الفيديو، فحظرته، فراسلني من أرقام أخرى، ما دفعني إلى كسر البطاقة وجلب غيرها، وعمدت إلى تجنبه كلياً".

القيود الاجتماعية

بحسب تقارير سابقة ناقشت موضوع التحرش، وأشخاص يعملون في المحاكم الشرعية، تستطيع المرأة أن ترفع دعوى على الشخص الذي يتحرش بها في حال كان معها دليل، أي شاهد رأى الواقعة، أو في حال تمكنت من تسجيل مقطع صوتي يظهر تفاصيل الواقعة، أو غيره من الإثباتات. ورغم أن عقوبة صارمة قد تصدر بحق المتحرش، فإن النسبة الأكبر من النساء اللواتي شملتهن أسئلة مجلة عين المدينة يرفضن رفضاً قاطعاً أن يتكلمن أمام أحد عن حادثة التحرش، أو أن يتقدمن للمحكمة لأسباب كثيرة تندرج كلها في إطار الخوف من كلام الناس ومن وصمة العار.

قالت وئام (45عاماً): "من ترتدي لباساً محتشماً وتمشي ضمن الأصول، لا يفكر أحد في الاقتراب منها. وعلى الفتاة ألا تخرج من منزلها إلا للضرورة القصوى، ولا بد من أن تكون برفقة محرم مع التزام حدود الأدب، وإلا فالذنب يقع عليها وتكون هي مسؤولة عن الخطأ مهما حصل". ويبدو واضحاً في كلامها أنها تلقي اللوم على الضحية.

وأوردت امتثال (19 عاماً) طريقة تعاطيها مع التحرش. قالت "أمشي في الشارع على غرار كل الصبايا وقد أصادف أحياناً كلمة مزعجة أو نظرة غير طبيعية، لكن كثرة المشاكل التي أواجهها في حياتي اليومية تدفعني للصمت. يستحيل أن أروي لشخص معين ما حصل معي لأن أحداً لن يدعمني، حتى أهلي. المجتمع سيدينني وسمعتي ستتشوه وقد يؤثر ذلك علي مستقبلاً. الصمت والتجاهل أفضل حل".

بدورها علقت أم علي (50 عاماً): "لدي ابن وحيد وأربع بنات، وأنا نازحة الآن، وفي حال تعرضت إحدى بناتي لمضايقة، سأسكت وأجبرها على المكوث في البيت، لأني لست حالياً في وارد خوض جدل مع أحد. الوضع صعب والمشاكل كثيرة، كما أخاف أن يؤذونني بوحيدي".

مبادرات وحلول خجولة

يتجلى اهتمام المنظمات غير الحكومية بموضوع التحرش من ناحية توعوية، إما بتوزيع ملصقات أو بتنظيم جلسات توعية أو حملات مناصرة، تتناول التحرش بالتفصيل وتزود النساء بإرشادات عن كيفية حماية أنفسهن. وفي بعض مراكز الحماية في المنظمات التي تهتم بالمرأة، هناك ما يسمى "غرفة الحماية" حيث تأتي المرأة وتروي قصتها ويتم تقديم الدعم لها في جو من التكتم الشديد. لكن ذلك لم يساهم في وضع حد للتحرش في مناطق الشمال.

وتقول نور مديرة قسم إدارة حالة gpv في "مركز قباسين المجتمعي" لعين المدينة: "لا يمكن أن نحدد طريقة واحدة للتعامل مع من تعرضت للتحرش، علينا أن نرى الحالة وندرسها، وبحسب الحالة التي تردنا نتصرف، لإنها تختلف من واحدة لأخرى، ليس بالضرورة أن تكون المساعدة توعوية فقط، بإمكاننا أن نؤمن لها مساعدة مادية أو إغاثية وغيره من الخدمات التي يقدمها المركز".

وذكرت فاطمة زيدان مديرة "مركز نقطة بداية" في مدينة سرمدا: "نستقبل النساء اللواتي تعرضن للتحرش فنقدم لهن الدعم النفسي، لاحقاً إن لم يتحسن وكانت الحالة متأزمة جداً نقوم بإحالتها إلى منظمات تم الاتفاق معها بهذا الخصوص، منها التي تعنى بالشأن الطبي والصحي وغيره لمتابعة الحالة إذا كانت متضررة من التحرش".