أعياد كثيرة للشهداء

ليس بالإمكان استيراد الحرية. هي ذلك المفهوم الذي يولد في لحظة ولا تستطيع إيقافه، هذا ما علق في حنجرتي رافضاً أن يتزحزح. لا أعرف كيف تسيطر جملة على حواسك الخمس، لم أحلم بها ليلاً ولا أذكر أني خضت حديثاً سياسياً منذ زمن، فلم يعد هناك وقت للكلام.

حاولت أن أفكر أكثر، فالطريق الطويل الذي أمشيه للوصول إلى عملي يحتاج إلى أكثر من فكرة وإلى أكثر من عشرة أصابع أعدّها كلما بدأت. لم يخطر في بالي أن اليوم في مفكرتنا القديمة هو السادس من أيار أو عيد الشهداء.

«قد علقتكم يد الجاني ملطخة             فقدست بكم الأعواد والمسدا»

وحده الفيس بوك من ظل يحدثنا عن تاريخنا. قرأت بيت الشعر هذا على صفحة مغترب آخر. ربما أردت التعليق على ما كتبه ثم خطر في بالي أن أمين معلوف قال يوماً إن المغترب كان منفياً وقبلها نازحاً وقبلها ربما أجبرته الحياة على اتخاذ قرار بالانسلاخ عن بلاده. ربما وحده الآن يهتز لبيت الشعر هذا. توقفت عن كتابة الرد وأردت إكمال طريقي وقلت: «كم عيداً للشهداء سنحتاج عند امتلاك الحرية؟».

بدأت الفكرة تتداخل مع تفاصيل كثيرة؛ هل ستعطل المدارس في أعياد الشهداء الكثيرة وعندها لن يبقى يوم للدراسة، أم أنها ستكون يوم عمل وطني؟

استبعدت الفكرة كمن علقت في عينه حشرة. عركت عيني كي أصحو، فلا نريد مصطلحات بعثية جديدة عند امتلاكنا حريتنا، سنكتفي بدقيقة صمت. «ما الذي يجول في فكرك» عند كل دقيقة صمت؟ علينا أن نجد طريقة جديدة للتعبير عن أعياد الشهداء، ربما سنكتفي بالترحم على أرواحهم في الإذاعة المدرسية، أو نكتب جملة على حائط الفيس بوك، ثم بعد أن نرهقهم أدباً على صفحاتنا ننسى وتبرد قبورهم من جديد. وحدهن الأمهات سيبكين فقد أبنائهن ويتحسسن صور وجوههم الجميلة ويربتن على شعر أحفادهن بالكثير من الحقد والألم. ربما لا تعني الشهادة لأم أكثر من الغياب.

من هم الشهداء الذين كنا نحتفل بعيدهم في السادس من أيار؟ حاولت أن أعصر ذاكرتي فلم تسعفني. لعل قاتلهم كان العثماني جمال باشا السفاح، أو ربما الجنرال غورو عند احتلال فرنسا بلادنا. جهلي بالأسماء التي اختفت في كل احتفالات أعياد الشهداء التي مرت خلال أعوامي الأربعين، والسنوات السبع التي عشتها في زمن الثورة، دفعني لا شعورياً إلى المقارنة وربما التساؤل، هل كان التاريخ كاذباً في نقل أوراقه إلينا.

كم شامت كان هناك حين رأى تلك الجثث معلقة على أعواد المشانق؟ كم خائن وعميل وتاجر حروب كان يأخذ حصته من دمائها؟ لمست وجهي خوفاً من فكرة أن يكون أحد أجدادي واحداً من هؤلاء.

ألسنا الآن من نضع صور بوتين «المخلّص» ونرفع أيدينا ملوحين للطائرة التي تنطلق من أرضنا لتقتل ما تبقى من قلوبنا؟ أليس هناك من يتغنى بالطائرات الروسية وبالحرس الثوري الإيراني وغيرهم من المرتزقة، وينصبون لنا المشانق بأيديهم ويشمتون بأطفالنا ويتباهون بالجثث التي تخلفها الطائرات؟ كم يد لوحت للفرنسيين وهم يقصفون قبة البرلمان السوري في أربعينيات القرن الماضي ويدمرون دمشق الياسمين معدّدين النعم التي جلبها المستعمرون لبلادنا؟ وعلى سيرة البرلمان، هل وضع البرلمانيون الجدد صوراً للمندوب السامي على الحائط الرسمي لقبّتهم وفي بيوتهم وفي غرف نومهم أم اكتفوا بعدِّ الشهداء والوقوف دقيقة صمت أخرى على أرواحهم وراحوا يبحثون بعدها عن خمارات البلد وملاهيها ليخففوا عن رؤوسهم ضجيج الجثث، مؤكدين على أهمية المقاومة والممانعة؟

وإلا كيف نكون -بكل هذا الفرح بالقتل والانقسام على قضية عادلة- أبناء جيل كان يشعر بالألم لشهداء لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين ويهتزون لذكرهم؟

عندما نسترد حريتنا علينا أن نعيد النظر في كتابة التاريخ فالجغرافيا أقوى من أقلامنا، ثم لم يعد بيدنا أن نوقف هذه الحدود، أما في التاريخ فلن يُكذَب علينا مرة أخرى. نحن الشهود على العصر. سنكتب ما يخطر في بالنا، وسنملأ سماء العالم الأزرق، ونغرد على تويتر، ونفعل ما لم يفعله أجدادنا. ضحكت لما راودني وكنت قد وصلت قريباً من عملي. ولكن أخبار الطيران القذرة على صفحتي أعادتني من حلمي فركضت لأحتمي خلف جدار على الطريق. لحظات من الصمت مرت، انتبهت بعدها أني في جغرافيا أخرى، أكملت طريقي. ربما هذا عيد آخر للشهداء سأضيفه إلى لائحة ما يخطر في بالي يوم أن ننال حريتنا.